الأربعاء: 25/12/2024 بتوقيت القدس الشريف
خبر عاجل
اولي: الاشتباه بعملية دهس قرب "غوش عتصيون"

حربان.. لا حرب واحدة

نشر بتاريخ: 01/06/2024 ( آخر تحديث: 01/06/2024 الساعة: 15:17 )

الكاتب: د.سعيد زيداني



ردًا على عملية "طوفان الأقصى" يوم السابع من شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، شنت القوات الإسرائيلية في اليوم التالي حربها الثأرية وواسعة النطاق على قطاع غزة، في إطار عملية عسكرية حملت اسم "السيوف الحديدية"، تلك الحرب التي ما زالت نارها مشتعلة حتى كتابة هذه السطور. أمًا الأهداف المعلنة لتلك الحرب الثأرية فتتلخص في أربعة هي التالية: القضاء على القدرات العسكرية لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) وشريكتها حركة الجهاد الإسلامي؛ القضاء على قدرات حكم حماس في قطاع غزة؛ تحرير الأسرى/ الرهائن؛ وضمان الأمن لمستوطنات غلاف غزة والمدن المجاورة لها من الشرق والشمال. وكما نعرف جيدًا فقد حظيت تلك الحرب بأهدافها المعلنة على تأييد وتعاطف دوليين كاسحين، خاصة في دول أوروبا الغربية وفي دول قارتي أمريكا الشمالية وأستراليا، تمثلا بزيارات كل من رؤساء الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا ورئيس وزراء بريطانيا لتل ابيب. كما وحظيت تلك الحرب بأهدافها المعلنة على سكوت أو تغاضي (يقول البعض &

39;) من قبل دول عربية موثرة، مثل مصر والإمارات والسعودية، نافرة لأسبابها من حركة حماس ومن حكمها ومن المحور الإيراني الذي يسندها بالقتال ويغذيها بالمال والسلاح. هذا، بالطبع، إلى جانب الإجماع اليهودي الصهيوني حول تلك الأهداف المعلنة، ذلك الاجماع الذي وجد تعبيرًا واضحًا وصريحًا له في وسائل الإعلام، وفي احتضان أسر الرهائن وفي الالتفاف حول الجهد الحربي وفي تشكيل حكومة الطوارئ. ولكن هنآك حرب آخرى بأهداف مضمرة ترافق وتوازي منذ البداية تلك الحرب المعلنة أهدافها: الحرب على الإنسان والمكان والبنيان في قطاع غزة.

هذه الحرب المرافقة والموازية ومضمرة الأهداف تفسر ذلك الانقضاض الهمجي والوحشي على المدنيين والأعيان المدنية في جميع أنحاء القطاع، قبل الاجتياح البري وبعده. وهي التي أدت إلى هذا العدد المروع من القتلى والجرحى والمفقودين تحت الركام، وإلى ذلك القدر المفزع من التدمير للمنازل والمشافي والمعابد والمدارس والجامعات والمزارع وشبكات الطرق والمياه والكهرباء والصرف الصحي. وهي التي تفسر أيضًا ترويع وتجويع المدنيين الغزيين، وتكشف عن النوايا الخفية بترحيلهم إلى جنوب القطاع وجنوب جنوبه، تمهيدًا لتهجيرهم إلى شبه جزيرة سيناء ومنها إلى دول عربية وغير عربية. مثل هذه الممارسات الهجمية والوحشية من قبل القوات الإسرائيلية الغازية لا تبررها، بالطبع، الضرورات الحربية، وتتناقض بالتالي مع أحكام كل من قانون حقوق الإنسان الدولي والقانون الدولي الإنساني. غني عن القول في هذا الصدد بأن تلك الخروقات الجسيمة لأحكام كل من هذين القانونين الدوليين هي التي جرت دولة إسرائيل إلى قفص الاتهام في يناير/ كانون الثاني الماضي بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، أم الجرائم، أمام محكمة العدل الدولية، كما جرت لاحقًا في شهر مايو/ أيار الحالي إلى طلب المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية بإصدار أوامر القبض على كل من رئيس وزراء إسرائيل ووزير الدفاع فيها، باعتبارهما المسؤولين الرئيسيين عن ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة.

والعبرة: لم تتهم دولة إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الجماعيه (قيد النظر في محكمة العدل الدولية)، ولم يتهم قادتها بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية (قيد النظر في محكمة الجنايات الدولية)، بسبب حربها ذات الأهداف المعلنة، وإنما أساسًا بسبب حربها الموازية وخفية الأهداف ضد المدنيين الغزيين ومقومات وجودهم في قطاع غزة. بكلمات أخرى، في حربها لغرض تقويض القدرات العسكرية لحركات المقاومة الإسلامية، وكذلك لغرض تقويض قدرات حكم حماس في قطاع غزة، كان الإجماع الوطني الإسرائيلي كاسحًا، وكان التعاطف الدولي جليًا وواضحًا. وما الدعم المالي والسياسي والعسكري الأميركي إلا خير دليل على ذلك. ولكن حربها الموازية ومضمرة الأهداف ضد المدنيين الغزيين ومقومات وجودهم كانت خلافية (أقل ما يقال). تلك الحرب الموازية وويلاتها هي التي اشعلت لهيب الاحتجاجات الشعبية، وعلى راسها الاحتجاجات الطلابية، في دول ديمقراطية كثيرة، وهي التي جرت إسرائيل وقادتها إلى قفص الاتهام في المحاكم الدولية. بكلمات أخرى، من برر، أو مال إلى تبرير حرب إسرائيل ضد المقاومة الإسلامية من منطلق حقها في الدفاع عن النفس، صدمه وأرعبه عدوانها الهمجي وواسع النطاق على الإنسان والمكان والبنيان في كامل قطاع غزة. حتى داخل المجتمع اليهودي في إسرائيل ذاته، تناسلت بكثرة أعداد النافرين من هذه الحرب الموازية وأهدافها والمروجين لها. وفي المقابل، لقد كان تعاطف أو تأييد الفلسطينيين وأنصارهم في الإقليم وفي العالم الأوسع لعملية طوفان الأقصى بأهدافها المعلنة، ولمقاومة العدوان الإسرائيلي لاحقًا، غير قابل للإخفاء أو الإنكار، رغم تحفظ الكثيرين منهم على ممارسات مرفوضة ضد المدنيين الإسرائيليين تخللت عملية الطوفان وأعقبتها. ولكن معاناة المدنيين الغزيين نتيجة الحرب الموازية وأهوالها تظل غير قابلة للوصف، سواء اتخذت تلك المعاناة شكل إزهاق أرواح وأجساد المدنيين وتدمير الأعيان المدنية أو شكل التجويع والترحيل والحرمان من الدواء: معاناة ثقبت بقسوتها ضمائر الكثيرين من أحرار العرب وألعالم.

حربان، لا حرب واحدة، مشتعلتان إذن منذ بداية اجتياح القوات الإسرائيلية لقطاع غزة: واحدة بين إسرائيل وحلفائها والمقاومة الإسلامية وحلفائها؛ والثانية تشنها إسرائيل ضد الإنسان والمكان والبنيان في قطاع غزة. بسبب الحرب الأولى أصدرت محكمة الجنايات الدولية قراراتها بشان قادة حركة حماس الثلاثة؛ وبسبب الحرب الثانية أصدرت كل من محكمة الجنايات الدولية ومحكمة العدل الدولية ما أصدرته من قرارات. علمًا بأن المحكمة الأولى مستقلة وتختص بملاحقة الجناة من الافراد، بينما الثانية تابعة للأمم المتحدة وتختص بالنزاعات بين الدول، ويمكن بالتالي لمجلس الامن الدولي أن يعطل تنفيذ ما تصدره من قرارات (احترازية أو نهائية). وفي كلتا الحالتين فإن القرارات النهائية لكل من المحكمتين الدوليتين تصدر بعد تحقيق مستفيض يستغرق وقتًا طويلًا، وقتًا يعد بالسنوات.

وأخيرًا، بعد ما يقارب نهاية ثمانية شهور على اندلاع الحرب الثأرية وواسعة النطاق على غزة وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه: الخسائر الإسرائيلية، البشرية والمادية والسياسية والقانونية/ الأخلاقية هائلة. يضاف إلى ذلك تأكل قوة الردع من جهة، وتعثر تحقيق أهداف الحرب، المعلنة منها والخفية، من جهةٍ أخرى. وفي المقابل، فإن الخسائر الفلسطينية (أساسًا وليس حصرًا في غزة)، البشرية منها وغير البشرية، والمعاناة المرافقة، تتحدى الوصف في حجمها وهولها. ولكن رغم الخسائر لكل من الطرفين المتحاربين، ما زالت القضايا الخلافية التالية متشابكة وعصية على الحل كل بمفردها، تمامآ كما كان عليه الحال قبل شهور كثيرة: تبادل الأسرى، تدفق المساعدات الإنسانية بالقدر الكافي، وقف القتال وانسحاب القوات الإسرائيلية من غزة، إعادة إعمار وحكم القطاع في اليوم التالي للحرب وإعادة ربطه سياسيًا وإداريًا بالضفة الغربية، واستئناف المفاوضات الهادفة إلى تحقيق حل الدولتين حسب القرارات الدولية ذات العلاقة. ويعرف العارفون الآن بأن إعادة تركيب هذه الحزمة المتشابكة من القضايا الخلافية، وآليات معالجتها، تتطلب الكثير من ضغط وعزم الدول والهيئات الدولية النافذة والمؤثرة. كما وتتطلب الكثير على مستوى كل من الطرفين المتحاربين: فعلى إسرائيل أن توقف عدوانها وتسحب قواتها وتنهي حصارها، وعلى حركة حماس أن تتنازل عن حكمها لصالح سلطة وطنية لإدارة شؤون غزة، يتم تشكيلها باتفاق الحركات والقوى الوطنية الفاعلة والمؤثرة في القطاع، على أن تكون لاحقًا ذراعًا لسلطة وطنية فلسطينية مشرعنة بالانتخابات الديموقراطية (والتي تكون بدورها ذراعًا لمنظمة التحرير الفلسطينية بعد شرعنتها ديمقراطيًا). وبدون ذلك سوف يتعسر محاصرة الحريق في قطاع غزة وحول القطاع وأبعد بكثير.