الأربعاء: 25/12/2024 بتوقيت القدس الشريف

حركة فتح وفعل الغياب المُتعمد .

نشر بتاريخ: 11/06/2024 ( آخر تحديث: 11/06/2024 الساعة: 09:56 )

الكاتب: يونس العموري


لطالما شكلت حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) عنوانا أساسيا ورئيسيا من عناوين الحياة السياسية الفلسطينية، وكانت على الدوام موضع الجذب والاهتمام كونها القابضة على دفة العمل السياسي والمتحكمة بمسار الفعل العام بمختلف مساراته الوطنية والاجتماعية والاقتصادية، لأنها استطاعت، كما هو معلوم، أن تسيطر على المؤسسات الوطنية العامة المنضوية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، حتى بات الخطاب الوطني الفلسطيني الرسمي وتوجهاته يعكس بالأساس التوجهات الفتحاوية ذاتها، بل إن هذه التوجهات كانت قد عبرت عن نفسها بخطاب منظمة التحرير التي أصبحت متوافقة ومنسجمة والخطاب الفتحاوي دون أي شكل من أشكال التمايز أو التناقض ما بين الخطابين، أي أن حركة فتح قد تماهت بالخطاب العام لمنظمة التحرير، الأمر الذي أضاع إلى حد كبير خصوصية فتح كحركة نضالية ريادية وقيادية للإطار الفلسطيني الجامع.

وبلا شك إنها قد استطاعت أن تعيد احياء الهوية الوطنية الحضارية للشعب الفلسطيني بعد أن تعرضت للطمس والتذويب... وهو الأمر الذي يسجل لصالح تاريخ فتح برغم الكثير من التعارضات. وهذا الشأن الذي جعل من فتح حركة هلامية الشكل وفضفاضة. وحينما وجدت فتح ذاتها أمام اختبار الأزمات والتي أقل ما يقال عنها اليوم أنها حركة يصعب لملمة مبعثراتها ولم شملها وجمع قادتها وفق برامج واحدة موحدة، حيث أضحت الحركة فيه تحاول ومن خلال مؤسساتها إعادة هيكلة ذاتها عبر تجديد خطاباتها التي تتنازعه الكثير من التناقضات التي تعبر بالدرجة الأولى عن نزاعات شخصية لممالك تربعت على عرشها، وليس بالضرورة عرش الصف الأول، بمعنى أن فتح قد صارت اليوم ممالك للكثير من الأمراء الجدد والقدماء الذين صنعوا لذواتهم الكثير من الإقطاعيات بصرف النظر عن مواقعها القيادية وأطرها المختلفة.

إن حركة فتح تعيش اليوم واحدة من أخطر مراحلها حيث ضياع هويتها وضياع أسسها وثوابتها في معرض مزايدات الكثيرين عليها وعلى تاريخها، في الوقت الذي أصبح الكثير من رجالاتها يعبرون عنها دون أن ينتموا إلى أدبياتها وأسس منطلقاتها، محاولين إحداث تغييرا تطويعيا على فتح يفقدها ألمعتيها ورياديتها وحقيقتها الموضوعية كحركة سياسية نضالية كفاحية تبنت المشروع الوطني الفلسطيني بالحرية والسيادة والاستقلال وقيام الدولة الفلسطينية.

ومما لا شك فيه أن فتح تتعرض لتحولات تاريخية وجذرية على مسارها حيث من الممكن وصف فتح في الظرف الراهن بمعايشتها لمخاض من نوع جديد وآخر من الممكن القول عنه أنه مخاض ما قبل الولادة الجديدة لفتح، والتي قد تكون ولادة مشوهة تأتي بشيء آخر غير فتح التي نعلم ونعرف، وقد تكون انبعاث طائر الفينيق الفتحاوي من تحت رماد وركام أزماتها وتناقضاتها.

وفي هذا السياق يعاود الكثيرون تعليق الآمال على أشخاص قيادية في الحركة، الأمر الذي لا يبشر بالخير بالمرحلة القادمة، خصوصا في ظل الحالة الفلسطينية عموما، والتي باتت تهدد المشروع الوطني ككل ولها آثارها الكارثية على الكل الوطني وليس على فتح فحسب...

وحتى نعي حقيقة وطبيعة التحولات التاريخية والجذرية لمسار حركة فتح الراهن، وتحديدا بفترة ما بعد رحيل زعيمها وقائدها ياسر عرفات، وما بعد خسارتها بانتخابات التشريعي بالعام 2006، وفي ظل تنحي فتح عن المشهد النضالي الكفاحي الراهن بمختلف ارجاء الوطن وتحديدا في قطاع غزة ، لابد لنا من أن نسترجع حقيقة المبادئ الأساسية التي قامت عليها هذه الحركة، وطبيعة الظروف التاريخية التي واكبت فعل انطلاقاتها وحقيقة الظرف الموضوعي الذي صاحب انبثاق حركة فتح وخروجها إلى الواقع الفلسطيني والعربي/ وماهية العوامل الموضوعية التي صاحبت فعلها بكافة الظروف والمراحل... إذ أن نشأة فتح وتكوينها وإعادة قراءة الحدث التاريخي لبدايات فتح تضع الأمور في نصابها الصحيح وتساعد بالتالي على معرفة ماهية التحولات الجذرية والتاريخية لمسار حركة فتح وحقيقة استراتجياتها ما بعد أزماتها الراهنة، التي اعتقد أن فتح اليوم بعيدة كل البعد عن ما جاء في نصوص وأدبيات مؤتمراتها الخمسة السابقة، الأمر الذي يتطلب رصد وقائع فتح وحقائقها للإجابة على الكثير من التساؤلات التي تدور في أذهان الكثير من الباحثين والمراقبين والدارسين لمسار الحركة الوطنية الفلسطينية عموما ولمسار حركة فتح خصوصا.

تأتي هذه المقدمة في محاولة لفهم ما يجري في فتح وهل من الممكن استنهاض فتح من جديد، وهو الأمر الذي بات ينادي فيه كل الغيارى الفلسطينيين والعرب القوميين على المصلحة العليا للشعب الفلسطيني، إذ أن انهيار حركة فتح وضياعها في أتون آخر غير أتونها وبرمجتها وفقا لاعتبارات وأجندات الغير سيصيب الحركة الوطنية برمتها بالشلل، والذي بات ملموسا بشكل أو بآخر في الظرف الراهن. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا ما هو السبيل لاستنهاض فتح من جديد وعودتها إلى أن تقود المشروع الوطني قيادة فعلية ومسؤولة بهدف استكمال مرحلة التحرر الوطني وذلك من خلال الخلاص من كل آفاتها والطحالب التي علقت بها؟؟..

وفي هذا السياق تتداخل الكثير من الاجتهادات بمختلف الأشكال فهناك من يقدم أطروحات سياسية تتماشى وما يسمى حاليا والواقعية السياسية في محاولة من أنصار هذا التيار لدفع فتح بأن تتبني ما يسمى بالواقعية السياسية والتسليم بوقائع العصر الجديد، وأن تخلع ثوبها من الناحية النظرية، وأن تتخلى عن أدبياتها وثوابتها (وإن كانت حاليا باقية فقط في نصوص أدبياتها وبعض بياناتها الصادرة عن بعض مؤسساتها). وهناك من يحاول أن يعتمد على أسلوب إعادة لململة مبعثرات فتح خدمة لمنهاج سياسي ما... هو الآخر موظف لصالح أجندة إقليمية وحتى دولية وبعيد عن المتطلبات الوطنية واستحقاقات المرحلة والتي تتطلب استنهاضا سياسيا مستندا على الثوابت الكفاحية واستعادة فتح لزمام المبادرة الوطنية في التصدي للمشروع الإسرائيلي الاستيطاني التفريغي وإنجاز هدف الدولة كاملة السيادة وعدم التفريط بالهدف الإستراتيجي هذا من خلال استبدال الدولة بشكل كياني آخر ممسوخ. وآخرون يعتقدون أن تحول فتح إلى حزب سياسي يمارس احتراف العمل والفعل السياسي على الساحة الفلسطينية في ظل متغيرات السلطة وتقويض أركان منظمة التحرير الفلسطينية من شأنه أن ينجز المشروع الفتحاوي الجديد، وهذا باعتقادي مقتل لحركة فتح ... إذ أن جوهر فتح يكمن في كونها حركة تحرر وطني وليست حزبا سياسيا أيدلوجيا أو عقائديا لها الكثير من مبررات الفعل والعمل حسب الرؤية الوطنية البراغماتية أولا، وهناك من يعتقد أن خلاص فتح لا يمكن أن يتأتى إلا من خلال قيادة جديدة يقف على رأسها شخصية قادرة على التأثير بمسارها بشكل عام.

إن كل هذه النظريات لا شك أنها محل تجاذب وسجال في الأوساط الفتحاوية بمختلف أطر وفعاليات الحركة، إلا أنها تبقى مجرد اجتهادات لا تسمن ولا تغني من جوع إذ أن جوهر عملية الاستنهاض، إذا ما جاز التعبير، يجب أن تقاس بمدى قدرة المطروح سياسيا أو تنظيما على محاكاة المرحلة الراهنة وتداعياتها، والتصدي لمتطلباتها وتحدياتها في ظل قوانين العصر العالمي الجديد وثانيا مدى انسجاميه المطروح وحقيقة فتح ذاتها.

وهنا لابد من مواجهة الذات الفتحاوية بممارسة المراجعات النقدية اللازمة خاصة في ظل المرحلة الراهنة والتي تتميز بحالة الشرذمة التي تعيشها الساحة الفلسطينية، وضياع الهوية الوطنية ومحاولة شطب الرقم الفلسطيني النضالي في معادلة الواقع الإقليمي الراهن. واستبدال النهج والمنهج الوطني بأخر له علاقة مباشرة بما يتم تسويقه إسرائيليا واميركيا على شكل حلول لغزة او حتى للضفة الغربية وتناول المسائل الوطنية بالقطعة ومعايشة ومعاينة الازمات اليومية والحياتية للشعب الفلسطيني من خلال إدارة الحالة والازمة اذا ما جاز التعبير. وفتح غائبة او مغيبة والأصح انها تُغيب نفسها عمدا عن معادلة التأثير والتأثر مما يجري حاليا وفتح غير موجودة بالأساس بالميدان وبالتالي بالتأكيد غير موجودة على طاولة صناعة القرار للمصير القريب للشعب الفلسطيني.