الإثنين: 16/09/2024 بتوقيت القدس الشريف

اعتدنا المشهد.. فأصبنا بتبلد المشاعر

نشر بتاريخ: 12/06/2024 ( آخر تحديث: 12/06/2024 الساعة: 12:15 )

الكاتب: اياد اشتية

المشاعر هي الأداة التي نعكس من خلالها إدراكنا للأحداث التي نعيشها، تختلف الطريقة التي نعكس فيها إدراكنا هذا من شخص لآخر وهو ما نطلق عليه التعبير عن مشاعرنا، وطريقة التعبير عن مشاعرنا هي أهم من مشاعرنا ذاتها لأنها هي ما تحدد التعريف الحقيقي لما نشعر وهي ما تمكننا من إفهام من حولنا طبيعة هذه المشاعر، وفي هذه الأيام ترافقنا مشاهد الدمار المنبثق منها رائحة الموت، في ظل استمرار (حرب الأبادة) ضد قطاع غزة، وفي فلسطين بشكل عام، هذه المشاهد أصبحت روتيننا اليومي كما الماء واستنشاق الهواء، ومع مرور الوقت، قد تفقد هذه المشاهد تأثيرها النفسي على المشاهدين، حيث يصبح هنالك اعتياد على مشهد الموت، أو الدمار، أو القصف، وصل بالبعض أن يمر مروراً سريعاً عليها خوفاً من "التأثير النفسي السلبي" الذي ينتابهم من لحظة لأخرى.

لا زلت اذكر أسم آدم لانزا جيداً، اذكر ما قالته مذيعة الاخبار في التغطية العاجلة (.. وردنا للتو، أن الشاب آدم لانزا ذو العشرين ربيعاً والقادم من مدينة نيوتاون الصغيرة والهادئة في ولاية كونيتيكت هو مرتكب أبشع المجازر الجماعية في تاريخ الولايات المتحدة الامريكية إن لم تكن في العالم، مذبحة مدرسة ساندي هوك، التي راح ضحيتها 27 شخصاً بينهم 20 طفلاً تتراوح أعمارهم بين 5 و7 سنوات، يال هذه الكارثة..!!! تنتهي التغطية بانهيار وبكاء مقدمة الاخبار على الهواء مباشرة.

مذبحة مدرسة ساندي هوك.. السؤال الذي يجول في خاطري.. كم "ساندي هوك" ارتكبت في غزة وفي عموم فلسطين منذ بداية الحرب؟؟ كم مقدمة برامج بكت وهي تنقل خبر "مذبحة النصيرات" -وهي الأخيرة في لحظة اعداد المقال- كم تناولت وسائل الاعلام المحلية والعربية والعالمية ذلك؟؟ كم منا تابع تفاصيل الحدث؟ ساندي هوك تمارس يومياً في فلسطين وبلا هوادة، وبأرقام فلكية، وبأعداد مرتفعة من الشهداء..من الجرحى، من ذوي الإعاقة، من النازحين الجدد..المشردين..المكلومين، ولم نسمع جملة "يال هذه الكارثة..!!!".

في فلسطين اليوم نحن جميعاً مضطربين نفسيين، اعتدنا المشهد، فالحياة اليومية المعاشة من قتل ودمار وتخريب وحواجز وتقطيع اوصال المدن، وكثرة بث وتكرار المجازر ومتابعة الأخبار التي تحولت العاجلة منها الى اعتيادية، خلق حالة ارباك للمشاعر، أدت الى جمودها وتبلدها، أي قتل الإحساس والتعاطف مع مشاهد القتل والابادة، فلم تعد أخبار الحرب تُثار في أحاديث الناس، وفي جلسات العامة، والمثقفين، بل اصبحوا يتناولوها بشكل اعتيادي دون أي مشاعر، تحول الجميع الى التحليل الخاص، أحدهم قال باعتقادي انه سيتم ضرب المشفى الفلاني، كما حصل بالمعمداني أي أن الحديث بالمشهد المروع أصبح اعتيادي.

في الارشاد النفسي تعي أن كثرة قيامنا بفعل شيء ما، حتى تلك الأشياء التي نعرف في قرارة أنفسنا أن لا حول لنا بها ولا قوة، يجعلنا أقلّ اكتراثاً بمشاعرنا تجاه هذا الشيء، وكأن ما في داخلنا يقول (ما عليك إلا أن تتعرّض كثيراً لأي شيء، وسينتهي بك الأمر إلى اعتياده، حتى ولو كان سيئا).

نحن لا ننكر أن لكل إنسان همه الخاص وقضيته الخاصة ومشاغل حياته الخاصة، وأن شعوب العالم اعتادت على مشاهدة الكثير من مواقف الظلم من قِبل العدو المحتل في كافة مدننا وقرانا ومخيماتنا، حيث أصبحت جرائمها معروفة ومعتادة، وهذا ما يشير له علم النفس بوضع "التعود الذي قد يقود إلى تبلد المشاعر"، وهنا يظهر دور الشخص نفسه في كيفية حفظ نفسه من هذا التبلد والبقاء في حالة التعاطف والدعم المستمرة.

والشيء بالشيء يذكر، إن لغة الخطاب وتقديم المشهد الإعلامي يجب أن يكون أكثر قوة بالشكل والمضمون، والابتعاد عن خطاب العاطفة الممل، والانتقال به الى خطاب العقل الوازن، فالكلمة الموزونة والهادفة أقوى من السلاح، وعلى الاعلام المحلي والعربي والعالمي أن يغير من طريقة بثه لتلك الأحداث الدامية، حتى لا تكون تغطيات اعتيادية، عدا عن أهمية إيصال الرسالة بلغات أخرى من شأنها أن تتناول إظهار الوجه القبيح والممارسات اللاإنسانية "لعدو الإنسانية".

علينا أن نكون إنسانيين وعقلانيين، نعم نقول لتك الحرب الشعواء كفى، قفي، وندرك في ذات الوقت أن تبلد المشاعر وارد مع استمرارية هذه الأحداث، ومع ذلك لا بد من المحافظة على الحس الإنساني بشكل مستمر، الذي يشعر به ملايين الناس حول العالم الآن في ظل بث آلاف المقاطع والصور المؤلمة، والحرص على عدم فقدان التعاطف مهما كانت الظروف والتوقيت.

وعلينا أن نعمل بجد لنحمي أنفسهم من حالة التبلد بالمشاعر ومن اعتياد المشهد، فمن الممكن مثلاً أن نتوقف عن مشاهدة الأخبار أو متابعة "السوشال ميديا" لفترة من الوقت، ومعاملة الاخبار على طريقة (الصيام المتقطع) للحفاظ على الوضع النفسي بشكل سليم، والإبقاء على اتصال بالواقع المعاش.

اعملوا بجد على التفريغ النفسي، تحدثوا مع الأطفال ومع الاقران ومع الزملاء، ومع من تريدون، لا تكبتوا مشاعركم ولا تكدسوا الخبرات السلبية الناتجة عن الحرب، ما زال قلبكم ينبض.. وما زال الوطن يأن.. علينا تجديد مشاعرنا.. علينا أن لا نعتاد المشهد..