الثلاثاء: 24/12/2024 بتوقيت القدس الشريف

غضب الشباب في بلاد الغرب- حول المسيرات الشعبية والحراكات الطلابية المناهضة للحرب على غزة

نشر بتاريخ: 24/06/2024 ( آخر تحديث: 24/06/2024 الساعة: 18:47 )

الكاتب: د.سعيد زيداني

كنا شاهدين خلال الشهور الأخيرة على مسيرات شعبية، حاشدة وصاخبة، في مدن كثيرة في الولايات المتحدة وكندا، كما في مدن/ عواصم دول أوروبية، خاصة في أوروبا الغربية والشمالية، وذلك احتجاجًا على عدوان إسرائيل على الإنسان والمكان والبنيان في قطاع غزة، ذلك العدوان الوحشي الذي بدأ منذ أكثر من ثمانية شهور وما زال مستمرًا. كما وكنا شاهدين على لحاق طلبة الجامعات الأميركية والأوروبية والاسترالية وغيرها بهذا الحراك الشعبي المناوئ لذلك العدوان وداعميه والمدافعين عنه. ولم يكن خافيًا أو قابلًا للخطأ بأن الشباب هو من يتصدر هذا الحراك المناوئ للحرب، سواء داخل أسوار الجامعات أو في ميادين المدن/ العواصم خارجها. أمًا الرسالة الموحدة والمشتركة لهذه المسيرات والحراكات الشبابية كلها فذات شقان مكملان هما: أولآ، وقف العدوان الهمجي على غزة ومعاقبة إسرائيل وقادتها على ما ارتكبته قواتها الغازية من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية؛ وثانيًا، التعبير عن التعاطف مع الوجع الفلسطيني واحتضان الحقوق الوطنية الفلسطينية في الحرية وتقرير المصير ومقاومة الظلم والعدوان. وليس غريبًا في مثل هذه الحالات ان تختلط هذه الرسالة ذات الشقين المذكورين برسائل جانبية تبثها جماعات مشاركة تتماهى مع حركة المقاومة الإسلامية ومنطلقاتها أو جماعات كارهة لليهود من منطلق عنصري.

أرجو أن تساعد الملاحظات التالية في رش المزيد من الضوء على دوافع وتحيزات القائمين على تلك المسيرات والحراكات والمشاركين فيها:

ا. المسيرات الشعبية الصاخبة، وحراكات طلبة الجامعات الأكثر صخبًا، كلها تحدث في دول ديمقراطية ليبرالية، ولا تحدث في غيرها إلا فيما ندر. وبصورة خاصة، تكون هذه المسيرات والحراكات أكثر اتساعًا واشد صخبًا في تلك الدول الديمقراطية الليبرالية التي ناصرت إسرائيل في حربها على غزة، مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وغيرها. في الدول الديمقراطية الليبرالية، كما نعرف جيدًا، هناك احترام لحقوق الإنسان/ المواطن، يشمل حقه في حرية التعبير بأشكالها المختلفة، وهناك، في المقابل، تاثير للمواطن على الممثل المنتخب وصاحب القرار. أمًا في الدول غير الديمقراطية، فهامش حرية التعبير أضيق، وحرية الاحتجاج غير مرحب بها من قبل السلطات الحاكمة.

ب. وليس خافيًا أن الجاليات الفلسطينية والعربية والإسلامية في الدول الديمقراطية الليبرالية المذكورة أعلاه هي التي تتصدر تلك المسيرات والحراكات في ميادين المدن/ العواصم والجامعات. ولكن المشاركة في تلك الفعاليات الاحتجاجية لا تقتصر، بالطبع، على تلك الجاليات. فقد انضمت إلى قوافل المحتجين جماعات متنوعة تشمل المعادين الصهيونىة فكرًا ومشروعًا، أنصار الدولة الديمقراطية الواحدة من النهر إلى البحر، أنصار حقوق الإنسان المحليين والدوليين، أنصار مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها، وجماعات سلامية أخرى وخزت ضمائرها تلك الفظائع والجرائم التي ترتكبها القوات الإسرائيلية الغازية ضد المدنيين، خاصة النساء والأطفال، وضد الاعيان المدنية، خاصة المشافي والمنازل. ما يجمع المشاركين في تلك الفعاليات الاحتجاجية ليس تأييد حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وليس العداء لليهود، وإنما الحس الإنساني/ الأخلاقي الذي استنفرته مشاهد القتل والتدمير والتجويع والنزوح، مشاهد مروعة أوصلت إلى تحريك قضايا في المحاكم الدولية ذات العلاقة.

ج. وليس خافيًا أيضًا أن الشباب، سواء الفلسطيني/ العربي/ الإسلامي أو الأمريكي/ الأوروبي وغيره، هو من يتصدر هذه المسيرات والحراكات؛ شباب وحدهم الالتزام بقيم الحرية والمساواة والعدالة، والنضال ضد الظلم والقهر والاضطهاد. غني عن القول في هذا الصدد بأن تلك المسيرات والحراكات الشبابية تذكر بمثيلات لها ضد الحرب في فييتنام في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي، كما وتذكر بمثيلات لها ضد نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا في ثمانينيات ذات القرن. وفي حالة الشباب الأمريكي والأوروبي تحديدًا، فنحن بصدد جيل تخلص، وخلافًا للجيل السابق، من وزر المسؤولية عن جرائم الوحش النازي ضد يهود أوروبا وغيرهم.

د. وفي بعض الدول الأوروبية الديمقراطية الليبرالية حيث تضيق الفجوة بين الموقف الحكومي وما يطالب ويهتف به المتظاهرون، سواء داخل أسوار الجامعات أو خارجها، فقد سارعت تلك الدول إلى اتخاذ مواقف آكثر انحيازًا للقضية الوطنية الفلسطينية، مقترنة بمواقف غاضبة على إسرائيل وممارساتها الوحشية في غزة بخاصة والمناطق الفلسطينية المحتلة منذ عام ١٩٦٧ بعامة. وما اعتراف كل من اسبانيا وايرلندة والنرويج وسلوفينيا بالدولة الفلسطينية مؤخرا إلا خير دليل على ذلك.

بناء على ما ورد أعلاه، أود التأكيد على النقاط الثلاث التالية:

أولًا: من الواضح أن المسيرات الشعبية في ميادين المدن/ العواصم والحراكات داخل أسوار الجامعات تؤثر على الممثلين المنتخبين وأصحاب القرار في تلك الدول الديمقراطية الليبرالية، مواقع انطلاقتها. ولكن من الصعب الآن قياس مدى هذا التأثير وتجلياته. فالأمر منوط بعوامل أخرى كثيرة من بينها: مدى اتساع نطاق هذه المسيرات والحراكات وديمومتها، مدى تاثير ما تصدره المؤسسات الإنسانية والحقوقية من تقارير وتوصيات وما يصدر عن المحافل والمحاكم الدولية من قرارات، مدى تأثير القوى واللوبيات المضادة، وتطورات الأوضاع ذات العلاقة بالحرب محليًا وعلى مستوى الإقليم، وهكذا.

ثانيًا: رغم الصعوبة في قياس وتقييم الأثر، فلا يجوز التقليل من أهمية تلك المسيرات الشعبية الصاخبة في المدن/ العواصم وتلك الحراكات الطلابية في الجامعات الكثيرة، في توعية وتحريك الرأي العام وصاحب القرار على المستوىات المختلفة، خاصة لغرض التصدي للقضايا الحارقة والعاجلة ذات العلاقة بالحرب على غزة، وعلى رأسها القضايا الإنسانية والإغاثية والقانونية/ الأخلاقية، كحظر استهداف المدنيين والاعيان المدنية وعدم الحرمان من الغذاء والدواء والوقود. أمًا فيما يتعلق بقضايا اليوم التالي للحرب واليوم الذي يليه، فإن عملية قياس وتقييم الأثر تظل غاية في الصعوبة. وعلى أي حال، وبفضل هذه المسيرات والحراكات جزئيًا، يتكشف الوجه القبيح والمنفر للاحثلال الحربي الإسرائيلي والقائمين على تكريسه وإدامته.

ثالثًا: ومن المؤسف والمحزن حقًا، وإن لم يكن مستغربًا، غياب أو ندرة تلك المسيرات والحراكات في الغالبية الساحقة من الدول العربية والإسلامية. ففي تلك الدول العربية والإسلامية التي تدعم المقاومة او المتحالفة معها، لم ير الشباب قيمة مضافة، على ما يبدو، لأي مسيرة شعبية داعمة أو لأي حراك طلابي داعم. أمًا في دول التطبيع العربي، فلم يجرؤ الشباب، على ما يبدو، على تحدي أنظمة الحكم غير الديمقراطية ومساءلتها على تخاذلها في مواجهة تلك الجرائم التي ترتكب ضد المدنيين والأعيان المدنية في القطاع. وفي جميع الأحوال، هناك أكمة وراء هذا التراخي أو الوجل من قبل الشباب في معظم الدول العربية والإسلامية يجدر استكناه ما ورائها.

وللإجمال أقول: في ردها الوحشي والهمجي على عملية "طوفان الأقصى" يوم السابع من أكتوبر الماضي، ارتكبت القوات الإسرائيلية الغازية جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق المدنيين، جرائم أوصلت دولة إسرائيل وقادتها إلى قفص الاتهام في المحاكم الدولية ذات العلاقة. وما زالت مثل هذه الجرائم ترتكب بعد مرور أكثر من ثمانية شهور على اندلاع هذه الحرب المدمرة للإنسان والمكان والبنيان في قطاع غزة. وفي الدول الديمقراطية الليبرالية، مثل أمريكا وكندا وبريطانيا وجنوب افريقيا وأستراليا ونيوزيلاندة واليابان ودول الاتحاد الأوروبي، انطلقت مسيرات شعبية صاخبة في المدن وحراكات طلابية غاضبة في الجامعات، تطالب بوقف الحرب ومحاسبة القائمين عليها والداعمين لها. وما زالت هذه المسيرات والحراكات تزداد صخبًا وانتشارًا. وإذا كان من الصعب قياس وتقييم أثر مثل هذه المسيرات والحراكات، فإن أصداءها في مجالي التوعية وإيقاظ ضمائر الأحرار في ألعالم غير قابلة للتجاهل والإنكار. وختامًا، ما نحن بصدده هي مسيرات وحراكات يتصدرها الشباب الغاضب، داخل أسوار الجامعات وفي المدن/ العواصم خارجها، شباب غاضب وحريص على عدم ضياع صرخته الغاضبة ضد الظلم في الصحراء!

* أستاذ الفلسفة في جامعة القدس وجامعة بير زيت سابقا