الثلاثاء: 24/12/2024 بتوقيت القدس الشريف

طوفان الأقصى يكشف أن مفهوم الأمن القومي للإئتلاف الحاكم في إسرائيل هو تهديد وجودي للدولة

نشر بتاريخ: 07/07/2024 ( آخر تحديث: 07/07/2024 الساعة: 15:20 )

الكاتب: العميد: أحمد عيسى

أجاب الجزء الأول من هذا المقال على ثلاثة أسئلة هي ما هو المفهوم المعروف للأمن القومي الإسرائيلي أو (مفهوم بن غوريون)؟ وما هومفهوم الحكومة الحالية أو مفهوم نتنياهو؟ وهل ثمة اختلافات بينالمفهومين؟ وهل هي إختلافات مفاهيمية أم إجرائية تتعلق بالتطبيقات العملانية للمفهوم، خاصة ما يتعلق بكفاءة النخبة؟

في هذا الجزء سيجيب المقال على سؤالين إثنين هما ما هو دورعملية طوفان الأقصى والرد الإسرائيلي عليها في كشف وتعميق المأزق الناتج عن الإختلاف بين المفهومين؟ وهل ثمة إحتمالات لنجاح مفهوم نتنياهوفي صناعة وتثبيت الوجود؟

أما حول دور عملية طوفان الأقصي والرد الإسرائيلي عليها في كشف وتعميق مأزق إسرائيل الأمني، فتجادل هذه المقالة أنه فيما تعتبر عملية طوفان الأقصى والرد الإسرائيلي عليها عوامل كاشفة للمأزق وليس عوامل منشئة له، إلا أنها في نفس الوقت ترى فيهما عوامل مساهمة في تعميق المأزق وايصاله الى نقطة لم يعد فيها قابل للحل.

وينبغي هنا التوضيح أن القلق على مستقبل الدولة وقدرتها على الحفاظ على وجودها قد رافق الدولة منذ الإعلان عن قبامها وكان هذا القلق هو الدافع والمحرك الأساس لتطوير بن غوريون مفهومه للأمن القومي، ويلاحظ أن هذا القلق قد بدأ يخرج للعلن ويطفو على سطح الجدل الفكري والسياسي في الأوساط الأكاديمية والسياسية والعسكرية الإسرائيلية منذ بداية الألفية الجديدة.

وقد وصل هذا السجال ذروته في العام 2005، عندما قرر شارون رئيس الحكومة في حينه الإنسحاب أحادي الجانب من غزة، حيث انقسم المجتمع الإسرائيلي السياسي حول هذا القرار الى معسكرين ما بين مؤيد ومعارض، وقف على راس المعسكر الأول شارون، الذي انسحب على اثر هذا الإنقسام من حزب الليكود الحاكم وشكل حزب جديد اطلق عليه اسم كاديما، ووقف على راس المعسكر الثاني رئيس الوزراء الحالي نتنياهو.

وكان الخبير في دراسات الجيوبولتيك المعروف جورج فريدمان من أوائل من تناول مخاطر هذا الإنقسام على مستقبل إسرائيل وقدرتها على المحافظة على الوجود، لا سيما وأنه انقسام بين مقاربات أمنية للمعسكرين حول التهديدات المتوقعة للدولة في المدى المتوسط والبعيد وذلك في مقال له نشره موقع ستراتفور (Global Intelligence) الأمريكي العام 2007، حمل عنوان الإنسحاب من غزة ومأزق إسرائيل الدائم.

إذ فيما والقول لفريدمان, تبنى شارون مقاربة أمنية ترى أن التطورات الجارية في البيئة الإستراتيجية لإسرائيل تتضمن مصفوفة من التهديدات المتوقعة التي لا يمكن لإسرائيل النجاح في مواجهتها بنفس تموضعها الإستراتيجي ما قبل الألفية الجديدة، حيث ستساهم هذه التحولات سواء الجارية أو تلك المتوقعة في المنطقة والعالم الى إحداث خلل جسيم في معادلة الأمن القومي الإسرائيلي، لا سيما في ما يتعلق باتجاه مسار المعادلة مع معادلات الدول الصديقة لإسرائيل وكذلك الدول والقوى المعادية لها، مما يفرض على إسرائيل تصويب مسار معادلتها بما يضمن عدم التصادم مع المعادلات الأخرى خاصة معادلة الولايات المتحدة الأمريكية التي يعتبر التحالف معها أحد الركائز التي يقوم عليها الأمن القومي الإسرائيلي.

وتاسيساً على ذلك رأى شارون وبصفته أحد جنرالات الجيش، أن تصويب مسار معادلة الأمن القومي الإسرائيلي يفرض على إسرائيل الإنسحاب أحادي الجانب من غزة إذ لا يمكن للجيش مواجهة التهديدات المتوقعة التي تتضمنها التحولات الجارية في المنطقة والعالم في ظل إستمرار بقاء أعداد كبيرة منه لحماية عدد قليل من المستوطنين في غزة، مما يستدعي التخلص من عبئ البقاء في غزة، حتى لو كان ثمن ذلك خروج بعض العمليات من غزة ضد إسرائيل، حيث يمكن للدولة أن تتحمل هذه العمليات ولكن لا يمكنها تحمل التهديدات المتوقعة، وحجته في ذلك كانت أن (أمن الدولة يتقدم على أمن الأشخاص).

ومقابل ذلك تبنى المعسكر الثاني بقيادة نتنياهو زعيم المعارضة في حينه، مقاربة تقول أن أمن الأشخاص هو اولوية عليا دائمة لإسرائيل، وأن الحديث عن تهديدات وجودية متوقعة للدولة في المدى المنظور هو شكل من أشكال الترف الفكري، وحجته في ذلك أن إسرائيل تمتلك من فائض القوة العسكرية ما يمنع أعدائها من مجرد التفكير بالمبادرة الى مهاجمتها.

وهنا تجادل هذه المقالة أن عملية طوفان الأقصى والرد الإسرائيلي عليها بشن حرب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين، قد كشفت عن خطأ التقديرات والإفتراضات التي قامت عليها مقاربتي شارون ونتنياهو، فمن جهة مقاربة شارون ها هي المقاومة الفلسطينية في غزة قد بادرت الى عملية أكبر من قدرة إسرائيل على إحتمالها كما حاجج شارون، ومن جهة مقاربة نتنياهو فها هي المقاومة في غزة قد بادرت لمهاجمة إسرائيل على الرغم من اللاتماثل في القوة العسكرية بين الطرفين كما حاجج نتنياهو في مقاربته.

وعلاوة على ذلك كشفت سرعة إنخراط جبهات أخرى لمساندة غزة في مواجهة حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل عليها عن خطأ آخر للمقاربتين، يتعلق بعزل جبهة غزة عن باقي الجبهات، سواء كما راهن شارون بأن الإنسحاب أحادي الجانب من غزة سيعزلها عن باقي الجبهات، أو كما راهن نتنياهو بأن إغراء حماس بالسلطة والحكم والمال سيبعدها عن باقي الساحات كما افترض نتنياهو، الأمر الذي يتجلى بوضوح ايما وضوح انعزال جبهة غزة عن جبهات لبنان واليمن والعراق وسوريا والضفة الغربية بما في ذلك إيران.

ومن المفارقات هنا أن طوفان الأقصى أجبر نتنياهو على التخلي عن محاججته بأن أمن الأشخاص هو أولوية عليا دائمة للدولة، وتبني محاججة شارون القائمة على أن أمن الدولة والوجود يتقدم على أمن الأشخاص، الأمر الذي يتجلي بوضوح في موضوع عدم اكتراثه بموضوع الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة في غزة.

والى جانب اثباتها فشل المقاربات الأمنية للمعسكرين السياسيين اللذان يتشكل منهما المجتمع السياسي الإسرائيلي، فقد أثبتت العملية فشل تقديرات الجيش الإسرائيلي وزادت من قناعة المجتمع الإسرائيلي برمته بأن المؤسسة العسكرية إنما تخدع المجتمع بمواظبتها على مدى عقود على تسويق تقدير بأن الجيوش النظامية هي مصدر التهديد الوجودي للدولة، وأن الصراع مع منظمات من خارج نظام الدولة لا تشكل تهديد وجودي ولا تؤدي الى إندلاع حرب شاملة، حيث أسقطت حرب اكتوبر 2023، هذا التقدير الذي كان قد بدأ يتصدع بعد حرب العام 2006 على لبنان كما أشار تقرير لجنة فينوغراد العام 2007.

وكما عمقت عملية طوفان الأقصى من مأزق إسرائيل الأمني، فهكذا فعل الرد الإسرائيلي عليها، إذ بدل أن يصوب وضع إسرائيل في البيئة الإستراتيجية اصاب هذا التموضع بجروح غائرة، حيث اسقط روايتها وحول إسرائيل من دولة قامت كإستجابة للهلوكست الى دولة إبادة جماعية يجب معاقبة قيادتها كما قضت محكمتي الجنايات والعدل الدولية، وحولت الرأي العام الدولي من طرف مؤيد لإسرائيل ومتعاطف معها الى طرف معادي لها ويطالب بمعاقبتها، وفضلاً عن مساسه بعلاقات إسرائيل مع حلفائها وشركائها الإستراتيجيين، كما مس برغبة بعض الدول العربية على مواصلة التطبيع مع إسرائيل، علاوة على انه فرق المجتمع الإسرائيلي بدل من أن يوحده.

وفيما يتعلق باحتمالات نجاح مقاربة نتنياهو الأمنية في إخراج إسرائيل من مأزقها، فيبدو أن المجتمع الإسرائيلي منقسم حول ذلك الى فريقين، إذ يرى الفريق الأول والمتمثل في الإئتلاف الحاكم بزعامة نتنياهو مدعوما باراء فريق ليس صغير من متقاعدي الجيش والخبراء في الأمن القومي الإسرائيلي أمثال يعقوب عميدرور، وافرايم عنبر، وجابي سيبوني ومئير بن شابات وغيرهم، أن توظيف مزيد من القوة العسكرية التي تصل الى حد الإبادة الجماعية هي الوسيلة الوحيدة الأنجع لتحقيق النصر المطلق على العدو ولحسم وجود الدولة وإخراج إسرائيل من مأزقها، وكانت ورقة السياسات الصادرة عن معهد ميسجاف للأمن القومي والإستراتيجية الصهيونية الصادرة عن المعهد في شهر اكتوبر العام 2023، قد أوصت بذلك صراحة.

وبالمقابل يرى الفريق الثاني أن رؤية الفريق الأول قد أوصلت إسرائيل الى حضيض أمني وسياسي واجتماعي، وجعلت من السياسات المستندة اليها تهديداً وجودياً لإسرائيل، كما تجلى في الوثيقة الصادرة عن معهد متفيم والمشار اليه سابقاً.

في الواقع لا يعتبر الصوت المتضمن في الوثيقة ميتفيم هو الصوت الوحيد في هذا الشأن، وإن كان هو الأوضح حتى الآن، إذ سبقه وأعقبه أصوات كثيرة، أما الأصوات التي سبقته فتكتفي هذه المقالة بالإشارة الى الصوت الذي كان نتاج مشروع بحثي كبير نفذته مؤسستان بحثيتان كبيرتان في إسرائيل في شهر نوفمبر الماضي هما (بيرل كتسنلسون ومركز مولاد)، تحت عنوان إنهيار المفاهيم-الطريق الى إخفاق اكتوبر 2023، إذ ناقش المشروع عشرة مفاهيم، قاد إنهيارها الى انهيار الرؤية الأمنية والسياسية التي شكلت صدارة الفكر السياسي والأمني في إسرائيل وتحكمت بمخرجاته.

وأما آخر الأصوات حتى تاريخ كتابة هذه المقالة فكان صوت الوزير جادي ايزنكوت وعضو مجلس الحرب الإسرائيلي رئيس الأركان الأسبق للجيش، حيث قال من بين أشياء أخرى في مقابلة له مع إذاعة الجيش يوم الأربعاء الموافق 29/5/2024، أن الإئتلاف اليميني الحاكم في إسرائيل اليوم يمس بأمن إسرائيل.

وفيما تظهر تطورات المشهد الإسرائيلي أن الفجوة بين المعسكرين أخذة في الإزدياد لصالح المعسكر المشكك باحتمالات نجاح مقاربة نتنياهو، إلا أن هذا الأخير لا زال مصمم على مواصلة المراهنة على مقاربته، مما يعمق من مأزق إسرائيل ويدخلها في نفق مظلم لا مخرج له كما كتب عشية اندلاع الحرب توماس فريدمان على صفحات النيويورك تايمز، الأمر الذي يفرض على الفلسطينيين في كل من رام الله وغزة أخذه بعين الإعتبار في تصميم إستراتيجيتهم الوطنية لمرحلة ما بعد السابع من أكتوبر.