الكاتب: الصحفية سهير رجوب
"لقد أقام الإعلام دولتنا على الخريطة، واستطاع أن يتحرك للحصول على شرعيتها الدولية، وتكريس جدارة وجودها، قبل أن تصبح حقيقة واقعة على الأرض"، "ديفيد بن غوريون"، أول رئيس وزراء للاحتلال الإسرائيلي.
ويقول أيضاً مالكوم إكس، الناشط السياسي الأميركي: "إنَّ وسائل الإعلام هي الكيان الأقوى على وجه الأرض...لأن لديها القدرة على جعل المذنب بريئاً وجعل الأبرياء مذنبين، فهي السلطة الأهم لأنها تتحكم في عقول الجماهير".
شئنا أم أبينا .. الإعلام يؤثر في كل أنماط حياتنا وعلى سلوكنا وتصرفاتنا وكل رسالة تُبث عبر وسائل الإعلام تسري في عقولنا وقلوبنا كما يسري الدم في الشرايين .. ونحن كأفراد نتأثر بكل ما يكتب ويسمع ويشاهد في وسائل الإعلام.
وحينما أتحدث عن الإعلام بهذه الكلمات فإنني أُمهد للحديث عن أقوى ماكينة إعلامية مسيطرة على العالم كله وتحديداً في الأراضي الفلسطينية المحتلة، أتحدث عن أقوى تخصص وأصعبه في التدريس بالجامعات الإسرائيلية هو تخصص الإعلام، خلافاً لكل جامعات العالم؛ فلا تخصص الطب ولا الهندسة ولا البرمجة ولا الفيزياء والأحياء والكيمياء ولا أي علوم أخرى ولا غيرها من التخصصات تحظى على اهتمام من قبل حكومة الاحتلال مثل تخصص الإعلام، لمَ لا وهو الأساس لقيام هذا الاحتلال منذ سبعة عقود مضت، وأضف على ذلك أيضاً بأن من يتخصص الإعلام في الجامعات الإسرائيلية يجب أن يمر بتمرينات عديدة مكثفة حول علم النفس والاجتماع وكيفية توظيفها في الإعلام للتأثير على الجمهور المستقبل وتحقيق الغايات والمآرب الأمنية للمخابرات الإسرائيلية.
يُعتبر "الإعلام" في إسرائيل مثله مثل الطائرات والدبابات والقذائف والقنابل المحرمة أداة من الأدوات الأيديولوجية المركزية التي تتصدر عملية بناء الروح الجماعية وتوجيه التصورات والرؤى والمواقف القومية، وماكينة إعلامية يتم تسخيرها في خدمة المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، ويلعب هذا الإعلام بمختلف أشكاله المرئية والمسموعة والمكتوبة وبمختلف قنواته دوراً في التضليل الإعلامي لمجريات الحرب على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر.
ورغم إدراك السواد الأعظم من الفلسطينيين وتحديداً الإعلاميين والصحافيين والنشطاء لحقيقة ودور هذه الآلة الإعلامية الحربية، وضررها على القضية الفلسطينية، إلا أنَّ بعضهم ما زالوا يستقون أخبارهم منها، لا وبل القيام بعملية النسخ واللصق غير العقلاني من الإعلام الإسرائيلي سواء التقليدي أو الرقمي دون تريث، في اعتقادهم للأسف ما بأن ما يثار عبر الإعلام العبري حول مجريات الحرب على غزة وارتداداتها على الأرض الفلسطينية ككل هو حقيقةً انتصارٌ للقضية الفلسطينية المكلومة منذ 76 عاماً ويرفع من معنويات الفلسطينيين، وهذه الحقيقة المزيفة يجب أن تتغير وإلى الأبد.
التــهـــافــت علــى الــروايــة
تخيل معي أيها القارئ العزيز أن تقع حادثة أو أمرٌ ما في منطقة فلسطينية ما، ثم نعرف تفاصليها عبر الإعلام الإسرائيلي! الأمر ليست نكتة أو مزحة، بل هي حقيقة عكف بعض نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الأخرى على التسابق على نقل الأخبار والرواية منها، لدرجة تصل إلى التصديق التام لها، وبعض من وسائل الإعلام ونشطاء تلك المواقع لرفع الحرج عن أنفسهم يضعوا ما بين القوسين (الإعلام العبري يزعم)، دون إدراكهم بشكل عام أن كل خبر يتم ضخه عبر الإعلام الإسرائيلي هي صياغة وإنتاج المؤسسة الأمنية الإسرائيلية يعمد الاحتلال نشرها عبر أذرعه الإعلامية لتحقيق مآربه السياسية الأمنية والعسكرية، فما بالكم بالأخبار المتعلقة بالحرب على غزة ومجرياتها!؟ فمتى نستيقظ من غفلتنا هذه؟!
حقيقةً وصلت الأمور لأبعد من ذلك، حيث لم يعد الأمر يقتصر على وسائل الإعلام الإسرائيلية الرسمية بل تحوّل الناشطين الإسرائيليين والصحافيين والمحلّلين، إلى مصدرٍ أساسي لبعض الإعلام الفلسطيني، بل وعاملاً له حضورُه في تشكيل التصورات عن الواقع الداخلي الفلسطيني بمختلف سياقاته، رسّخت هذا الواقع عوامل كثيرة، بينها الانبهار بما يقوله الإسرائيلي نتيجةَ سنواتٍ من تكريس فكرة "تفوّقه" في مجال الحصول على المعلومات والتحليل وغيرها.
وبالتالي نجد بأنَّ عبارات ومقولاتٌ عادية يكتبها صحافيون ونشطاء إسرائيليون حول أي قضية أو حدث ما يجري بفلسطين، يتم التعامل معها من قبل بعض الصحافيين ونشطاء مواقع الاجتماعي على أنّها "شيء خارق للعادة"، أو "شيء غير مسبوق على الإطلاق" وأنه أمرٌ عظيم يستحق تسليط الضوء عليه!!، ولو أي فلسطيني أو من أي دولة أخرى كتب مقولات عادية فلن يعبأ به أحد، لكن، لمُجرّد أن يكون الكاتب إسرائيلياً، فإن هذا يدعو للنشر والاحتفاء على صفحات التواصل الاجتماعي وبعض الصحافيين والإعلام.
إذن، لابدَّ من الاعتراف أنَّ هناك اعتماديّة مُبالغ فيها على الإعلام الإسرائيلي كمصدرٍ لكثير من القضايا، لدرجة أن بعض من وسائل الإعلام الفلسطينية في بعض الأحيان jستقي المعلومات التي تتحدث عن إحصائيات معينة حول الفقر والبطالة بفلسطين وتدهور الواقع الاقتصادي، أو حتى نسب الإخصاب لدى الجنسين بفلسطين ومقارنتها بالأعوام الماضية، يا للهول! ألهذه الدرجة؟! نعم أقول لكم لهذه الدرجة وبل أزود من ذلك!؛ وهذا يشي بشيء من الكسل والتقاعس من قبل المؤسسات الإعلامية، لأن مثل هذه القضايا تكون مصادرها الأصلية في متناول أيدي الإعلام الفلسطيني ويمكن بكل سهولة أن يقوم أيّ صحفي فلسطيني بتجميعها من خلال أبسط الأساليب مثل (المكالمات الهاتفية مع أحد المسؤولين أو الشخصيات المعنية بقضية محددة)، ومع ذلك نرى أن النقل عن الإعلام الإسرائيلي أهم أولوية، لدرجة أنّ بعض القضايا الخاصّة بمُجتمعنا يتم تناولها حسب السياسة والأجندة الخاصة بالإعلام الإسرائيلي.
الإعـلام وعـلما الـنـفـس والاجتماع
ومن هذا المنطلق دائماً نستشهد بالأفكار بأنها هي من تولد المشاعر، والمشاعر ليس إلا نتيجة للأفكار، وهنا الإعلام قادر على أن يؤدلج الأفكار وكيفية تلقينها للجمهور بشكل أسهل، فمن ناحية نفسية يهمنا كيفية قراءة الخبر وفلترته بصورة تليق بالقارئ البسيط قبل القارئ المطلع.
وبالتالي؛ فإن الإعلام سلاح فعال بيد من يتقن علم النفس والاجتماع، وهذا السلاح يؤثر في كل أنماط حياتنا وعلى سلوكنا وتصرفاتنا .. ونحن كأفراد نتأثر بكل ما يكتب ويسمع ويشاهد في وسائل الإعلام، ولا يمكن عزل الإعلام عن علم النفس إطلاقاً، حيث نجد أن الإعلام الإسرائيلي بارع في توظيف علم النفس والاجتماع من خلال بث رسالتهم عبر الماكينة الإعلامية الصهيونية التي تديرها أجهزة المخابرات الإسرائيلية، وهذا ما نلحظه عندما يتم الترويج لأخبار مضللة مزعومة حول تسريبات من داخل مكتب رئيس وزراء الاحتلال "بنيامين نتنياهو" أو داخل مجلس الحرب حول شجار أو صراخ أو خلافات وتلاسن واشتباك بالأيدي بين وزراء الاحتلال حول مجريات الحرب على غزة وسير مفاوضات الهدنة، ويقع الإعلام الفلسطيني وحتى وسائل الإعلام الدولية الجمهور المتابع فريسة هذا الترويج المضلل المقصود!
مـا الـحـلـول؟!
لطالما كنت وما زلت أطالب المؤسسات الإعلامية الفلسطينية والصحفيين الفلسطينيين في العديد من المناسبات بضرورة التحلي بالمسؤولية الأخلاقية والوطنية الملقاة على عاتقهم، فأمامنا نحن الإعلاميين الكثير من المهمات الملقاة علينا في سبيل إيصال الحقيقة وتوعية النشطاء المهتمين بالأخبار عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتعرية الاحتلال وإعلامه المزيف وكشف سوأتهما أمام العالم، ويمكن تحقيق ذلك من خلال عدة مقترحات وتوصيات كتبتها مرات ومرات من خلال أبحاث علمية نشرتها في مجلات علمية محكمة.
أولى هذه المقترحات؛ ضرورة توظيف علم النفس والاجتماع في عملنا الإعلامي لما لهما من الأثر الكبير في التأثير على الجمهور وكشف زيف ادعاءات إعلام الاحتلال وتساهم في وأد الشائعات والحرب النفسية الممارسة علينا بشكل كبير، ومن المهم جداً جداً أن نعمل في المؤسسات الإعلامية على دمج خبراء وباحثين مَهَرة أثناء أدائنا الإعلامي لإبداء ملاحظاتهم ومشورتهم حول الأخبار والمعلومات التي ينبغي نقلها للجمهور لكي تكون الرسالة الإعلامية لها معنى وذات مضمون هادف، وضمان التأثير الفعال لدى الجمهور المتلقي (وهذا سر نجاح الإعلام الإسرائيلي وتفوقه علينا إعلامياً ونفسياً واجتماعياً).
وينبغي الانتباه إلى ضرورة ربط المؤسسات الإعلامية مع العديد من المؤسسات الأخرى والشخصيات المهمة والمسؤولين وانخراطها بشكل عميق بالمجتمع الفلسطيني لتتولد عملية الاعتماد المتبادل بين الإعلام والنظم والمؤسسات والمجتمع، ليسهل على الإعلام الفلسطيني الحصول على الأخبار من مصادرها الرسمية ونقلها للجمهور، وبالتالي تكون هذه خطوة مهمة للاستغناء عن الإعلام العبري والناشطين والصحفيين الإسرائيليين.