الكاتب:
أحمد رفيق عوض
لا داعي لإسباغ الهالة الأخلاقية على المثقف الجمهور يشكل مثقفيه ويتحكم بهم
لا شك أن مفهوم المثقف كان مفهوما اشكاليا وملتبسا أحيانا، في حين أن الثقافة بمعناها العام واضحة المفهوم والدور، ذلك أن الدور هو نتاج رؤية المثقف، ورغبته في التغيير نحو الأفضل من خلال قراءة واعية للواقع واشكالاته وتفاعلاته المستمرة.
في هذا اللقاء مع الروائي والدكتور أحمد رفيق عوض نناقش هذه الإشكالية التي باتت أكبر من اشكالية المثقف والمجتمع أو المثقف ودوره الاجتماعي، الى حالة سائلة للمجتمع والفكر وأداة التأثير فيه، والتي يراها عوض بأنها حالة تحول عميق لفكرة المثقف، نتيجة التقدم التكنولوجي، الذي، كان من المفترض أن يقدم حلولا نهائية أو شبه نهائية، إلا أن ذلك لم يحصل كالمأمول، بل انعكس هذا التقدم في العديد من الاختيارات والاحتمالات، وبات دور المثقف أكثر صعوبة، وبات غير متعدد الأدوار بل متعدد الاتجاهات أو الارتباطات، ولم تعد تلك الحالة القيمية المتخيلة في أذهان الناس هي النموذج الحقيقي، للمثقف الذي كان ذات يوم، أي ذلك الشخص الذي يحمل الحلول أو الرؤى الخلاصية أو التغييرية.
* السلطة الخامسة واشكالية المفهوم والدور:
- استنادا لسؤال طرحته في مقدمة كتابك " السلطة الخامسة" وهو: " هل يمكن لهاتفك الذكي أن يغير هويتك الثقافية؟" وفي ظل كل ما نشهده في عالم السوشيال ميديا ألا ترى أن مفهوم المثقف الذي هو بالأصل اشكالي وغامض أصبح نسبيا للمتلقي؟
* الجمهور يشكل مثقفه ويحكمه الآن، لأن الحديث حاليا أصبح عن المجموعات الكبيرة وال" داتا " الكبيرة، البيانات الضخمة والجمهور الضخم، وهو جمهور مستهلك بالتالي هذا الجمهور أصبح يحدد سلعته..
- بمعنى أن المصطلح تغير من متلق الى مستهلك؟
* صحيح وهناك تغيرات عميقة حول مفهوم الجمهور أيضا، من هو الجمهور؟ هل هو المتلقي فقط أم المرسل أيضا، فعندما تتغير وظيفة الجمهور تتغير رسائله وطريقة استقباله، وبالتالي فمهوم المثقف أيضا سيتغير، على اشكالية تعريف المثقف، خاصة في ظل المجتمعات السائلة التي نعيشها الآن، وهي سيولة مذهلة وتعدت الانزياح الى " انسياح " الحدود بين كل شيء، فمثلا من هو الجمهور؟ ومن يؤثر عليه؟ وما هي القوى المتعارضة التي تؤثر عليه؟ هل هي قوى صناعية ، امبريالية، تجارية، أم دينية، فبالتالي هناك سؤال آخر: في ظل هذه السيولة هل يبحث الجمهور عن صلابة ما؟ صلابة أيديولوجية أو قومية أو دينية أو وطنية، وهل هذا يفسر عودة الصلابة أي التعصب في ظل انسياحات عديدة وهدم الحدود؟ هل يفسر هذا عودة التعصب بأشكاله والعنصرية؟ وهل يفسر العلاقة بين وجود تكنولوجيى عال وعنف عال؟ ولهذا تتميز " النيوليبرالية – والتي هي ما بعد الدولة - بالوحشية ، توحش المال والأيدولوجية والسياسة؟ المفروض أن العالم قد تقارب أكثر ولكن ليس هذا ما يحدث، وهذه مرحلة خطرة، وأعتقد أنه يجب أن نعود الى التعريفات القديمة..
- تعريفات، لماذا؟
* تعريفات تضع الحدود وتحترم الخصوصيات والثقافات للفرد والمجتمع، مرحلة السيولة تعطي الإنسان مجموعة حبكات وليست حبكة واحدة، فالتكنولوجيا العالية لا تقدم اليقين، لكنها تقدم احتمالات وبدائل، كان المطلوب للتكنولوجيا أن تقدم حلولا، لكنها لا تقدم حلول هي تقدم تسهيلات وصور وغرائز، وهناك ارتباط عميق بين تقدم الوسائل وبين انتشار العنف،
* المفهوم النسبي يؤدي الى دور نسبي:
- بهذه الحالة اذا كان التعريف ما زال غير واضح واشكالي فهل هذا يعني أن الدور سيبقى نسبيا؟
* صحيح، وأصبح اشكاليا أكثر فأكثر، كل شيء أصبح قويا ما عدا المثقف، فهو يفقد قدرته على التأثير، فإذا كانت السلطات تأخذ دوره والآن التكنولوجيا تساهم بذلك أيضا والجمهور الذي بات ينازعه على دوره وأصبح هناك تحول عميق لفكرة المثقف، بمعنى هل هو صاحب الرؤية؟ أو المناضل من أجل هذه الرؤية؟ حاليا أصبح هناك الذكاء الصناعي الذي يقدم معرفة مذهلة وابداع، فبالتالي المثقف يؤخذ دوره ويضعف، ولهذا السبب لم يعد هو الذي يضع الأسس للمستقبل أو للجمهور، ربما أميل لتعريف ادوارد سعيد وهو الدور الرؤيوي وان كان ذلك عملا نخبويا، لكن أظن أن هذا هو المتبقي لدور المثقف، بغض النظر إن كان يؤخذ برأيه أو لا ولكن أعتقد أن الدور الرؤيوي مهم للمثقف، لأنه محاصر، فإما أن يكون تابع، أو موظف أو مستخدم، أو يجبر أن يتماهى مع السلطات المختلفة..
* المثقف وسباق المسافات:
- وهنا اشكالية أخرى، دائما نسمع مقولة الثقافي الذي يسبق السياسي، وكأنه سباق مسافات، فإذا كان المثقف يعاني من كل ماذكر فكيف سيخوض هذا السباق المطلوب منه؟
* هذا في إطار مفهوم المثقف في العالم الثالث، لكن الأمر تغير كليا، السلطات لديها مثقفيها ويؤمنون بها، أنظر الى مثقف الغرب، والذي يشاغب عليه، لكنه بالنهاية يقف مع رؤية الغرب وهو جزء من المنظومة، سؤالك يفترض أننا نتحدث عن المثقف كما طرحه " ماركس" الذي يجب أن يغير، والمثقف البرجوازي الأوروبي يجب أن يكون جزء من مجتمعه ويخدمه، التكنولوجيا كما قلنا تقدم لنا معرفة عالية جدا، السؤال من يصنف لنا هذه المعرفة كيف نستخدمها من أجل رؤية المستقبل والحاضر، ونعرف أنفسنا وغيرنا ونشتبك مع غيرنا، وتحديد قائمة الأصدقاء والأعداء والأهداف، ونحن لسنا بحاجة الى نظام سياسي فقط، بل بحاجة الى صاحب رؤية ومشروع، وليس بالضرورة أن يكون خبيرا، قد يكون كاتبا أو شاعرا.. النظام السياسي بحاجة إلى تأطير وتعريف وتحديد وهذا من وظائف المثقف أيضا، شئنا ذلك أم رفضناه، المثقف ليس شخصا سماويان بل هو أرضي أيضا.
* الجمهور صاحب الرؤية:
- في ظل الانسياح الذي تحدثت عنه، الجمهور أصبح صاحب رؤية أيضا أو يدعي ذلك..
* هنا الإشكالية، التكنولوجيا أعطت الجمهور قوة هائلة لم تكن في السابق، الكل لديه القدرة على القول والنقد والتحديق بالمرآة والجدل، الذي أصبح واسع جدا، والمثقف بالمعنى القديم من الصعب أن يجد نفسه حاليا، أو يلقى صدى لكلامه، لذلك يجب أن يكون الحديث عن مثقف جديد ومختلف ومهمته أصعب، التغيير صار أصعب اذا أردنا الحديث عن المفهوم القديم للمثقف، فالسلطات اصبحت أقوى، الإعلام أقوى، بالتالي الجمهور أصبح أقوى، في الغرب حاليا هناك تجمعات هائلة للمثقفين وتنظمياتهم، هناك اضافة للجامعات هناك ما يسمى خزانات التفكير ومراكز البحث، أصبح المثقف يختفي فيها، وطبعا الشركات واللوبيات، أصبح يختفي وراء هذه الواجهات الكبرى وهي التي تقدمه للجمهور.. بالمناسبة كان المستشرقون الأوائل هم مثقفو المرحلة الاستعمارية التي لم تنته حتى الآن للأسف.
* الحالة الرسولية وعبء المثقف:
- منذ زمن بعيد ونحن نضع المثقف ضمن هالة أخلاقية وقيمية أشبه بالرسولية، ألم نحمله عبئا كبيرا عندما وضعناه في هذه الهالة؟
* مرة أخرى هذه رؤية العالم الثالث المستمدة من الفكر الاشتراكي تحديدا، باعتباره " النبي الجديد"، كما قلت لك المثقف اليوم مختلف تماما ولديه أجنداته ويخدم سياقات مختلفة، اذا سنسير على هذا المفهوم القيمي أو الأخلاقي فماذا سنسمي مثقفي الغرب؟ أو مثقفي العالم الثالث الذين هاجروا الى الغرب واندمجوا فيه؟ المثقف كأي انسان آخر لديه مصالحه، لذا يجب نزع هذه الهالة عنه، المثقف ليس ما نتخيله، نحن نتخيل النموذج المثالي فقط.
* الأيقونة في الحالة الفلسطينية:
- في الحالة الفلسطينية لدينا عديد من المثقفين الذين قد تنطبق عليهم صفات المثقف في أذهان الناس من الناحية القيمية والمثالية أو نسميهم " المثقفين الشهداء" وهم يلقون بظلالهم على المجتمع وجدانيا، فهل مطلوب من المثقف أن يدفع الثمن دائما كما يقال؟
* الحالة الفلسطينية استثنائية، فهي حالة تحرر وانعتاق، وليست حالة استقرار وكمون ولهذا أرى أن النضال بحاجة الى أيقونات ونماذج، دونها لا معنى للنضال، طبعا يشمل ذلك النضالات الفكرية أيضا، النضال الفكري مهم جدا ولذلك المثقف مهم لأنه كما قلت هو صاحب الرؤية، فمثلا تفكيك المشروع الصهيوني الى مرجعياته وعلاقاته ومآلاته هذا مهم جدا، وهو أمر لا يتقنه الكثير، ومهم جدا أن نرد هجمة المحتل، وهذه النماذج / الأيقونات لن تكون الا بإيمان عميق جدا وبرأيي إيمان ديني وقومي عميق، ولا يمكن أن يتم ذلك الا بمتكأ لا بد للمثقف أن يتكيء عليه، فالنضال حلقات مترابطة ولا يوجد نضال من فراغ، بل يبنى على أشياء حقيقية وليست تخيلية.
* المثقف والنص اشكالية أخرى:
- اذا تحدثنا عن المثقف والمتلقي والنص، هل ترى أن النص أيضا بات يعاني من اشكالية، وهل فقد قيمته حاليا؟
* أولا أصبح هناك اسراف في الكتابة الإبداعية، والشكل بات يتفوق على المضمون ، وأصبح الشكل هو الهدف، والكلمة أهم من معناها، وأصبح ما يهم الكثيرين هو الاحتفال بالشكل، حتى في الروايات التي تشتهر أو تحصل على جوائز عالمية معظمها تذهب الى الشكل الذي يرضي الجمهور، بملامسة المحظور واللغو فيه، أو اثارة الجدل حوله، باعتبارها شكل من الحرية، بالنهاية حاليا قضيتنا ليست هذه المحظورات، فمصيبة حين يصبح هدف الكاتب البحث عن المحظورات في حين أنه محاصر غير قادر على التنقل بين مدينة وأخرى، وأنا أقول هذا شكل فقط لأنه نوع من استجلاب الناس أكثر من كونه ابداع، ولهذا السبب هناك اسراف شديد، وأقول ما الذي اختلف حاليا حتى ننتقل من قضايا جوهرية الى أخرى هامشية، هل أصبح لدينا دولة مستقلة ومجتمع ناضج لنتحدث عن القضايا الهامشية والمحظورات وغيرها..
- لكن هذه القضايا موجودة بوجود دولة أو لا بنضوج المجتمع وعدم نضوجه ويجب الحديث عنها..
* صحيح لكن ليس على حساب القضايا المهمة أو الأكثر أهمية، طبعا كل شخص حر بما يطرحه، هذه ليست دعوة لتقييد حرية أحد ولكن علينا ألا ننسى أننا ما زلنا في اطار تحرر وطني ومجتمع غير متشكل بشكل سليم، أنت تعيش في مدينة، صحيح، ولكن تحيطها المستوطنات، بعض الروايات حين أقرأها أتسائل: أين المستوطنة ؟ أين الحاجز؟ أين المحتل في المكان؟ حتى عندما تريد أن تحصل على وثيقة تاريخية تضطر أن تذهب الى مصادر غير فلسطينية " احتلالية"..الابداع في حالتنا عليه أن يخدم جرحنا، لا بد من اختراع طريقة ما تجمع ما بين الخيالي والإبداعي لتحقيق هذا الهدف.
- أظن للإجابة علينا أن نتبع نوع الشجر، فالشجر المزروع لامتصاص حصة السكان من المياه تشير الى وجود مستوطنة أو مشروع اقامة مستوطنة كما وضحت في روايتك " الحياة كما ينبغي أن تكون"..
* بالطبع، ككاتب لا يمكن أن تكتب دون أن يكون الجندي أمامك وفي ذهنك، كأي مواطن آخر، كما يعيش الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة ولا يمكن الا أن يذكر المحتل بكل تفاصيل حياته، هناك روايات لاذكر فيها للمكان الذي هو أشبه بالفخ، المكان حاليا هو فخ، مفخخ بكل شيء، وأصبح الآخر بشكل رئيس لدى بعض الكتاب ليس المحتل بل الآخر هو الفاسد أو المجتمع القاسي أو عدو المرأة.. الخ الخ، وأنا لست ضد ذلك، طبعا فالروائي أمين على مجتمعه ومن حقه الكتابة عن كل شيء، ولكن علينا أن نرى الأمور بشكل أكبر، الفاسد هناك من يفسده، أو نستطيع القول أنه فاسد مثير الشفقة هناك من هو أكبر منه، لماذا لم يكتبوا عنه؟ وعودة الى المحظورات لماذا يرى البعض أن مهمته أن يتكلم عن محظورات الدين أو المجتمع ولا يتحدث عن محظورات المكان؟ الروائي ليس مؤرخا ولا فيلسوفا أو نبيا لكن فيه منهم كلهم، فهو أمين على مجتمعه، وبصدق الروائيون الكبار عندما يكتبون يغيرون العالم فعلا، هناك روايات تغير العالم وتكون علامات حقيقية، وهذه مناسبة ليسأل الروائي نفسه أين أخطأت؟
الاسم امتلاك للمكان:
- هذا سيقودنا الى العودة الى البداية، فمن المفروض أن القادر على الفعل أن لا يهتم بالتعريف كثيرا..
* لا بالنهاية يجب أن نسمي الفعل، " وعلم آدم الأسماء كلها" الأشياء يجب أن تسمى، كل شيء يجب أن يكون له اسم، الفعل له اسم، الثورة لها اسم، الوطن اسم، والمثقف هو من يسمي، هو من ينحت الاسم، وهو من يلبس الاسم للفعل، فيصيح الفعل قويا ويترمز، واختزاله وترحيله من مكان لآخر، لهذا كانت العرب توجد شعراءها ليسمي لهم الأشياء، المكان، الزمان، المعركة الأعداء، الأبطال، لهذا ما زلنا بحاجة لهذا الدور، الشاعر، الكاتب، الروائي، المغني المثقف ما زلنا بحاجته، الفلاحون يسمون الأشياء كالشجر والحيوانات والحجر والأرض، فهو اذا ما سماها امتلكها.
* محصلة النتاج البشري:
- ضمن حالة الجدل الموجودة على السوشيال ميديا وباعتبار أن الجدل حالة صحية، ألا ترى أن ما يحدث من جدل عشوائي، أو جدل لا يفضي الى شيء؟
* لا هذا الجدل طبيعي كأي نشاط بشري، التكنولوجيا تنتج مؤثريها، ولاحظ كلمة مؤثرين وليس مثقفين، وطبعا هناك فرق، هذا الجدل هو جدل انساني وهو كأي حالة جدل كانت موجودة قديما لكنها اليوم أكبر، وهذا سينتهي الى محصلة اجتماعية مفادها أن الرخيص سيسقط وما ينفع الناس سيمكث في الأرض، وهذا قانون الهي، لذلك هذا الجدل لا يضر ولا يستوقفني، لأن هناك محصلة نتاج البشر، وهذا نشاطهم الذي قد يودي الى هاوية وقد يؤدي الى ما ينفع الناس..
السقوف وأداة التأثير والهزائم:
- في مفارقة ومقاربة تاريخية، عندما وقعت هزيمة حزيران في ال67 قلنا أن المجتمع والمثقف تعرضوا الى صدمة أدت الى ردة في الأفكار، حاليا هناك
هزائم عديدة لكننا لا نجد أن نفس الحالة تتكرر، هل اداة الانتاج أو أداة التأثير الإعلامي والفكري التي تغيرت هي السبب؟
* لأن السقوف تغيرت، في ال67 كان سقفنا عال جدا وكان هناك شعور بالتفاؤل التاريخي، والنصر بالروح العروبية والتقدمية، عندما انهزمنا انصدمنا بالسقف وبالأنظمة وأفكارنا، حتى بالتخيلات التي كوناها عن أنفسنا، هذه المرة السقوف أقل، تشعر أن هناك احتمال للهزائم وامتصاصها، وللأسف نحن أمام روح هزيمة، هذا ما يفسر ذهاب الكثيرين نحو التطبيع إلا ما ندر، وباتوا يرون أن التطبيع حل ويمكن نقاشه، وهذه مرحلة انحطاط، وصل بنا الحال إلى قبول التفاهم مع المحتل ممكنا قبل أن تتحرر الأرض.. هذا يعني أن سقوفنا وصورتنا عن أنفسنا انخفضت كثيرا إلى درجة أن تغيرت حتى تسمية الأشياء والأماكن.. أليس هذا تغيير للأسماء أيضا.