الكاتب: جريس ثلجية
تعد التحولات السوسيولوجية التي شهدها المجتمع في المناطق التي احتلتها إسرائيل بعد قيام كيانها عام 1948 من أبرز العوامل التي شكلت هويته المعاصرة. فمنذ ذلك الحين، واجه الكيان الإسرائيلي تحولات مفصلية لتكوين هويته ومحاولة الدمج بين سكانه المتنوعين دينياً وثقافياً. ولكن لن يكن هناك دمج حقيقي بل هي عملية صهر للثقافات المختلفة بين المهاجرين ما أدى إلى ظهور الصراعات، ويمكننا تقسيم هذه التحولات إلى عدة جوانب رئيسية تشمل الهجرة، الديموغرافيا، الصراعات الاجتماعية والثقافية، والسياسات الاقتصادية.
بدأت الهجرة اليهودية إلى فلسطين قبل قيام الكيان الإسرائيلي، لكنها تصاعدت بشكل كبير بعد عام 1948. استقبلت المناطق المحتلة ملايين اليهود من مختلف أنحاء العالم، مما أثر بشكل كبير على تركيبتها الديموغرافية والثقافية. تنوعت هذه الهجرات من حيث الأصول الجغرافية والثقافية للمهاجرين، ما أدى إلى تداخل وتعايش ثقافات وعادات مختلفة، وأثر ذلك بشكل ملحوظ على الهوية الإسرائيلية المتزعزعة. وكانت عملية نفي المنفى، التي تضمنت هجرة اليهود من مختلف أنحاء العالم إلى فلسطين ، محورية في تشكيل مجتمع إسرائيلي متعدد الثقافات والهويات، حيث حاولت هذه الجماعات المختلفة الاندماج والتعايش ضمن السياق الجديد لكنها لن تستطيع بسبب عمل الحكومة الإسرائيلية على صهر الثقافات والعادات المختلفة ووضعها في ثقافة واحدة ما أدى إلى ظهور صراع بين المجموعات المختلفة. فبعد مرحلة نفي المنفى شهد المجتمع الإسرائيلي نمواً سكانياً سريعاً وتغيرات ديموغرافية هامة منذ تأسيس الكيان المحتل. زاد عدد السكان بشكل كبير وتغيرت التوزيعات الجغرافية، مما أثر على الهوية الإسرائيلية والمساهمة في التنمية الاقتصادية سلباً وإجاباً . لعب هذا التنوع الديموغرافي دوراً كبيراً في الصراع بين الثقافات المهيمنة بين المجموعات الاجتماعية والثقافية المختلفة، فهذا أسهم في إثراء الثقافة الإسرائيلية بالثقافات المتضاربة كان لعملية "نفي المنفى" تأثير عميق على المجتمع الإسرائيلي، حيث جلبت معها ثقافات وعادات مختلفة من جميع أنحاء العالم، مما أدى إلى صراعات حول الهوية والاندماج. فكان للتحول الديموغرافي دور كبير في تعزيز الاختلافات السلبية بين المجموعات المختلفة ويعود ذلك إلى محاولات كبح الثقافات المتعددة ووضعها في ثقافة واحدة تمثل الدولة المزعومة.كان للتباين الديموغرافي بين المجموعات الإثنية والطبقات الاجتماعية في إسرائيل تأثير كبير على الصراعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
وبالرغم من التعايش النسبي بين مختلف المجموعات، شهد المجتمع الإسرائيلي صراعات اجتماعية وثقافية هامة. برزت توترات ناتجة عن الاختلافات السياسية والاقتصادية والثقافية، مثل الصراع بين اليهود الشرقيين والغربيين حول فرص العمل والتعليم والإسكان. وكما لعبت هذه الصراعات دوراً حاسماً في تحديد التوجهات السياسية والاجتماعية للدولة. فعلى مر العقود، أدت هذه الصراعات إلى تحديد طبيعة الكيان المحتل وتوجهاته المستقبلية، مع تأثيرات عميقة على الحياة السياسية والاجتماعية. والتوتر الناشب بين اليهود الشرقين والغربين ناتج عن محاولة صهر الثقافة لدى الآخر
ومن جانب آخر لعبت وسائل الإعلام دوراً هاماً في تشكيل الرأي العام وتعزيز الهوية . فتأثر المجتمع بشكل كبير بوسائل الإعلام، التي تلعب دوراً حاسماً في إثارة الرأي العام وتشكيل الواقع. ليتم توجيه الرسائل والأفكار من خلال وسائل الإعلام لتعزيز القيم والمعتقدات والأجندات المرغوبة من قبل الجهات السياسية أو الاجتماعية. من خلال وسائل الإعلام، ليتم تبني رؤى سياسية وتعزيزها، وتشكيل الرأي العام حول القضايا المختلفة، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية. وتلعب وسائل الإعلام الإسرائيلية "السلطة الرابعة" دوراً مهماً في تعزيز السياسة الصهيونية وهذا ما رأينها واضحاً اليوم بعد حرب السابع من أكتوبر عام 2023 ، وبدورها تقوم تعزيز الانتماء للكيان المحتل والتحرض على قتل الفلسطينيين لعبت وسائل الإعلام دورًا هامًا في تشكيل الرأي العام وتعزيز الهوية الإسرائيلية، ولكنها ساهمت أيضًا في تعزيز الصراعات والتوترات الاجتماعية.
فالمجتمع الإسرائيلي بعد 1948 وضع خطة لبناء الدولة ومن أهم أركانها التعليم والتجنيد الإجباري فتحظى المدارس والتجهيزات العسكرية بأهمية كبيرة في بناء الهوية والانتماء للكيان . فتشكل المدارس بدورها مكانًا لتعزيز الانتماء المزعوم للأرض عن طريق الجولات للطلبة وتأليف قصص تاريخية لبناء الانتماء لدى الطالب الإسرائيلي. وعندما ينهي الطالب المدرسة أي كانت اكديمية أو دينية يكون جاهز عقلياً للتجنيد الإجباري، والذي يواجه هذا الأمر الكثير من الصراع بين أتباع المدرسة الدينية الحريديم والحكومة الحالية بعد سَن قانون يجند الطلاب في المدارس الدينية كجنود ضمن قوات الاحتياط .
وأما من الناحية المالية فقد شهدت إسرائيل تحولاً من الاقتصاد الاشتراكي إلى الرأسمالي بمرور الوقت. بعد سنوات من السياسات الاشتراكية التي ركزت على توزيع الثروة بشكل عادل، تبنت إسرائيل سياسات اقتصادية جديدة تشجع الخصخصة والتحرير الاقتصادي، مما أدى إلى تغيرات في توزيع الدخل وظهور فجوات اجتماعية واقتصادية بين الطبقات المختلفة. أدى هذا التحول إلى تغيرات كبيرة في المجتمع، مع ظهور طبقات جديدة من الأغنياء والفقراء، وتأثير ذلك على البنية الاجتماعية والاقتصادية للكيان المحتل.
فتعرض الكيان إلى الهجرة من جديد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، فهاجرت أعداد كبيرة من اليهود الروس إلى إسرائيل، مما أثر بشكل كبير على الاقتصاد والسياسة والثقافة. فتم استغلال العمالة الروسية في القطاعات الاقتصادية الحيوية، وأسهمت الثقافة الروسية في تنويع المشهد الثقافي الإسرائيلي. كما لعب المهاجرون الروس دوراً هاماً في السياسة من خلال تأسيس أحزاب سياسية مثل حزب "إسرائيل بيتنا". كان لهذا التحول السوسيولوجي تأثير كبير على المجتمع، حيث أسهم المهاجرون الروس في تشكيل هوية جديدة وتعزيز الاقتصاد الإسرائيلي ولكن تم رفضهم من الكثير وأصبحوا عرضة للقتل فهناك أحد اليهود الروس قال " نتعرض للعنصرية فكان الروس يسموني يهودي في روسية وفي إسرائيل يسمونني روسي" هذا ما جاء في تقرير تأثير الهجرة الروسية على الاقتصاد الإسرائيلي. وتم اتهامهم بالسرقة وإنشاء عصابات ما زاد الكراهية.
وما كان من الهجرة الروسية إلى أن خلقت مرحلة جديدة أثرت في الحياة السياسية بوجود العديد من الأحزاب السياسية والتنافس بينها، مثل حزب العمل وحزب الليكود وحزب شاس وحزب اليسار. تم تشكيل سياسات داخلية وخارجية تعكس هذه الصراعات والتوجهات المتباينة. فمن الناحية الاجتماعية، تم توجيه الجهود نحو صهر جميع الثقافات والتعدديات تحت مسمى القومية اليهودية وتم تحويل الدين إلى قومية، مما أثّر على التفاعلات الاجتماعية والثقافية وتعزيز الصراعات المختلفة وما ساهم من انتشار الحركة الصهيونية وأستخدام هذه الحركة للدين كقومية أظهر صراعات مع دول مختلفة عديدة.
ولكن على صعيد العلاقات الدولية، تعد العلاقة بين يهود إسرائيل ويهود أمريكا جانبًا هامًا في المجتمع الإسرائيلي. يعتبر دعم يهود أمريكا لإسرائيل علاقة طردية، حيث يعتبر الدعم الذي يقدمه اليهود الأمريكيون لإسرائيل من النواحي المالية والسياسية واللوجيستية بمثابة تعزيز للكيان المحتل ومستوطنيه. ومع ذلك، يوجد أيضًا توترات واختلافات في هذه العلاقة. فاليهود في أمريكا قد يحافظون على ارتباطهم الثقافي والديني بإسرائيل، ولكن هناك بعض التباعد الاجتماعي والثقافي بين الجالية اليهودية في أمريكا والمجتمع الإسرائيلي.
نهايتاً
من خلال استعراضنا للتحولات السوسيولوجية التي شهدها المجتمع الإسرائيلي بعد عام 1948، نجد أن هذه التحولات أثرت بشكل كبير على الهياكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في البلاد. شكلت هذه التحولات هوية جديدة تتميز بالصراعات العديدة بسبب تنوعها وتعددها ولكن رفضها للآخر، وأسهمت في صياغة سياسات الكيان وتوجهاته الاقتصادية والاجتماعية. وفي وقتنا الحالي يمكننا أن نجد التحالف بين إسرائيل والولايات المتحدة. تحالف قوي وساهم في بقاء إسرائيل قوية بالرغم الصراعات الداخلية وخاصة بعد الحرب.