الأحد: 08/09/2024 بتوقيت القدس الشريف

أن تعيش طيلة عمرك خائفا مترقباً

نشر بتاريخ: 22/07/2024 ( آخر تحديث: 22/07/2024 الساعة: 09:52 )

الكاتب: د. أحمد رفيق عوض



الفلسطيني هذه الأيام يترقب الصفقة وما أدراك ما الصفقة، وهو في ذلك مضطر أن يعرف مواقف الأطراف والجهات المحلية والدولية وامكانيات نجاحها من عدمه، وخلال ذلك، يترقب شاحنة المساعدات وينتظر الراتب ويخشى القذائف ويحاذر الحواجز ويستعد للاقتحام المفاجئ، وهو يرجو وقف اطلاق النار لعد من تبقى من أسرته أو من أصابع كفه ، وهو يقرأ المعوذتين خوفاً على ابنه وعلى شقته وعلى حقله وعلى مستشفاه ومدرسته. الفلسطيني يخشى إجراءات السفر وتعليمات المعابر من الجيران ومن غير الجيران، يحسب سنوات عمره ليعرف أي المعابر أو الحواجز يستطيع اجتيازها وتلك التي لا يستطيع عله يصل المسجد الأقصى أو بيت شقيقته في محافظة أخرى، والفلسطيني يخاف على حياته قائماً أو نائماً أو ماشياً ويخشى على أشجاره من أسنان جرافة عصبية أو منشار مستوطن غاضب، ويخشى على أغنامه و حظيرته ودواجنه، ويخشى انقطاع الماء والكهرباء والوقود والدواء، ويخشى ضياع بطاقته الشخصية أو كوشان أرضه أو تصريحه، ويخشى التأخر في العودة ويخشى السفر وحيدا. وهو يخشى البناء في منطقة (ج) ويخشى حفر بئر ماء في منطقة (ب) ويخشى الاعتقال في منطقة(ا).

الفلسطيني ومنذ مئة عام تقريباً يخشى أن يعرب عن فرحه أو احتفاله، وهو يخشى المؤقت والانتقالي، ويخشى الاتفاقيات والمبادرات والتفاهمات ، ويخشى الزيارات والمقترحات، يخاف من الهدايا والرشاوى والمكافآت المفاجئة، يخاف من المناشير والمناطيد والكمرات والآليات المصفحة والأعيرة النارية.

الفلسطيني وطيلة عمره يشعر أنه مكشوف الظهر، غير محمي، ولا مغطى، لا سياج لحقله ولا قفل لبابه ولا حرمة لخصوصياته ، يجبر الفلسطيني على رفع يديه ورفع قميصه عن بطنه، و يجبر على أن يرى بأم عينيه كيف يهدم بيته أو يجبر على هدمه ويجبر على أن يرى بأم عينيه كيف تخلع أبواب خزانته وخزانة زوجته، وكيف يساق فلذة كبده إلى حيث لا يعرف.
يجبر الفلسطيني على تجرع الخوف منذ لحظة ولادته وحتى موته، ويجبر على أن يعيش بلا قدرة على حماية ممتلكاته والذود عن خصوصياته، قبل سنين طويلة قرأت قصة قصيرة لا تزال تحفر في قلبي عميقاً للكاتب عدنان الصباح ويحكي فيها عن شاب مراهق تم اعتقاله عشوائياً في أحد شوارع جنين، كان في جيبه رسالة من حبيبته، ولما أراد الجندي أن يصادرها ، لم يجد الفتى سوى ابتلاعها ليحمي آخر ما يمكن حمايته. هذه القصة ترمز حقاً إلى ذلك الانكشاف المريع الفظيع الذي يحيا فيها الفلسطينيون.
حياة الخوف والترقب التي يعيشها الفلسطيني طيلة عمره ، علمته التكيف و القدرة على المواصلة والاستمرار ، وعلمته طرق النجاة وأساليب البقاء ، وصقلته تماماً حتى حول ذلك كله إلى اجتراح الردود واختراع الاستجابات. حياة الخوف والترقب تكسر وتخضع وتطوع، الخوف لا يعلم الاعتدال فقط ولكنه يعلم الخنوع والفهلوة والفردانية وانتهاز الفرص والاعتصام بالسلوكيات المرفوضة، ولكنه في حالة الفلسطيني – ورغم كل شيء- فإن حالة الخوف والترقب جعلت من الفلسطيني قادراً على الفهم والهضم ومن ثم الرد والصد. لا يمكن أن يحيا الفرد أو الجماعة في حالة دائمة من الخوف والترقب دون أن يعمل على الخروج منها مهما كان الثمن عالياً ومكلفاً.