الكاتب:
المحامية عبير بكر
طالب محامون إسرائيليّيون في سنوات الخمسينيّات الانفصال عن رقابة السلطة الحاكمة، وذلك من أجل تمكينهم تمثيل موكّليهم ضد مؤسسات الدولة دون تخوّفات وبشكل مهني ومستقل. وكجزء من التسوية مع المحامين تقرّر فصل جهاز الرقابة على عمل المحامين عن الدولة وإيداعه بيد نقابة المحامين ليتم الاعتراف بها لاحقًا كجسم مستقل مسؤول عن تنظيم الرقابة على عمل المحامين ويمكّنهم من إدارة أمورهم المهنية بمعزل عن السلطة.
تبنى قانون نقابة المحامين الإسرائيلي عام 1961 منظومة نقابيّة، كانت متبعة للمحامين بدول أخرى، يكون فيها للنقابة دوران: الأول يعنى بكونها الجسم المسؤول عن تنظيم مهنة المحاماة وقواعدها وآدابها بما يتوافق مع خدمة المصلحة العامة؛ أما الدور الثاني فيرى فيها الجسم التمثيليّ للمهنة ومحترفيها والذي يسعى لحماية قضاياهم المهنيّة، ومنع التعرض لهم خلال أو نتيجة لأداء دورهم المهني. قد يخلق هذان الدوران أحيانًا تضاربًا بالمصالح بين "المصلحة العامة " "ومصلحة المحامين" وهو أمر تمت إثارته بسياقات مختلفة في الماضي لن أخوض بها الآن.
بناء على ما ذكر، يعرّف البند الأول من قانون نقابة المحامين الإسرائيلي لعام 1961، النقابة على أنها الجسم التمثيلي الذي يجمع المحامين في البلاد والذي سيعمل على حماية مكانة ونزاهة المهنة، إضافة إلى العمل من أجل حماية مبدأ سيادة القانون وحقوق الإنسان والقيم التي أقيمت على أساسها الدولة، لذا نرى أن نقابة المحامين في البلاد تطالب في الكثير من الأحيان بالانضمام إلى مرافعات بالمحاكم بقضايا جوهريّة لها علاقة مع عمل المحامين ومكانة المهنة وقواعدها وأيضًا إلى التماسات ومرافعات أخرى لا علاقة بعمل المحامين، وإنما لمجرّد إثارتها أسئلة جوهريّة متعلقة بحقوق الإنسان ومبدأ سيادة القانون. فعلى سبيل المثال لا الحصر، نذكر انضمام النقابة في السنوات الأخيرة للالتماسات المقدّمة في قضية حق المشتبهين بالإجراءات العادلة ولزوم منع التفتيش بشكل قانوني، وبالسماح للسجناء المنتمين لمنظمات الإجرام بالتّواصل الهاتفي مع موكّليهم، وبلزوم تطعيم السجناء بلقاح ضد فيروس الكورونا، وبلزوم تحسين ظروف احتجاز السجناء فترة تفشي فيروس الكورونا والمطالبة بإبطال قانون منع حجة المعقوليّة وغيرها من القضايا المهمة. وللنقابة الإسرائيليّة كان وما زال دور فعّال في قضايا حقوق السجناء ليس فقط من باب حقوق الإنسان إنما تماشيًا مع مكانتها الخاصة وفقًا للقانون كجسم رقابة على مصلحة السجون والشرطة يسمح لمندوبيها الدخول الى المنشآت وتفقد أوضاع السجناء يشمل حتى الصلاحية بمباغتة السجن بزيارة طارئة وتفقديّة حتى بدون تنسيق مسبق.
يلزم القانون الإسرائيلي كل المحامين بالانتساب إلى نقابة المحامين ليتمكنوا من مزاولة المهنة. وكانت المحكمة العليا الإسرائيليّة قد صادقت في الماضي على احتكار النقابة انفا لتجهض بذلك أي إمكانية إقامة جسم نقابي تمثيلي بديل أو منافس لنقابة المحامين الحاليّة.
إن لزوم انتساب المحامي إلى نقابة عينيّة ليس بالجديد وهو قائم أيضًا في دول أخرى. إلا أن هذا الشرط يحتّم على النقّابة النزاهة التامة تجاه أعضائها والحرص على اتباع مبدأ المساواة سواء بعملها من أجل خدمة "المصلحة العامة" أم بعملها من أجل حماية وخدمة مصلحة محاميها وموكليهم دون أي اعتبارات سياسيّة. تأتي الأهمية الخاصة للزوم حرص النقابة على مبدأ النزاهة والمساواة بالتعامل مع أعضائها وتوفير بيئة مهنيّة حاضنة وداعمة نظرًا للتعددية القومية والثقافية للمحامين المنتمين للنقابة في ظل سلطة باتت الممارسات القمعية ضد الأقليات فيها (خاصة الفلسطينيّة) أمرًا معروفًا.
تعمدت البدء بالمقدمة أعلاه كي أحاول بالسطور التالية تحليل أداء نقابة المحامين تجاه المحامين العرب، خاصة بعد أحداث السابع من اكتوبر (2023). فلا يمكن فحص أداء النقابة دون الرجوع الى شرعية وجودها وهدف إقامتها.والسؤال الذي أحاول الإجابة عليه هو: إلى أي مدى حققت نقابة المحامين الأهداف المعلن عنها في قانونها (حماية المصلحة العامة، إعلاء معايير المهنة وآدابها، وحقوق الإنسان وحماية ودعم المحامين) مع المحامين العرب الفلسطينيين بعد السابع من أكتوبر، وماذا اختلف عن أدائها قبل السابع من اكتوبر 2023.
الملاحقات السياسيّة للمحامين الفلسطينيين في البلاد
طالت الملاحقات السياسيّة منذ أحداث السابع من تشرين أول الماضي (2023) أيضًا المحامين من الداخل الفلسطيني والقدس الشرقيّة. أخذت الملاحقات أشكالًا عديدة، بدءًا من الاعتقالات ولوائح الاتهام، مرورًا بحملات تشهير وتحريض وخطاب كراهية وانتهاء بلوائح اتهام تأديبيّة بادرت إليها نقابة المحامين في البلاد. بدأت الملاحقات ككل الملاحقات على أساس منشورات أو هتافات أو تحليلات سياسيّة، عبّر فيها المحامون عن مواقفهم كفلسطينيين إزاء الحرب على غزة أو أحداث السابع من تشرين الفائت. وطالت الملاحقات أيضًا محامين إختاروا أن يكرّسوا عملهم من أجل الأسرى الفلسطينيين لزياراتهم وطمئنة ذويهم وأطفالهم عليهم في ظل ممارسات التعذيب والتجويع والإخفاء القسري والتنكيل التي باتت أمرًا معروفًا لدى الجميع.
الّلافت في موضوع ملاحقة المحامين هو أن الملاحقة ذاتها لم تقتصر على ممارسات سلطات الأمن كالشرطة أو المخابرات والمحاكم، انما شملت مشاركة فعّالة وحملات تحريض من قبل زملائهم، محامين إسرائيليّين وعلى رأسهم أولئك الذين يعملون في المجال الجنائيّ وعلى دراية كافية بممارسات الشرطة القمعية وحقوق المشتبهين وما أدراك. وبدل أن تصطف النقابة مع المحامين لصد المحاولات السلطويّة بالتعدي على مهنة المحاماة لدوافع سياسيّة وتحذّر من ثقافة الوشاية بين الزّملاء لما تحمله من انحدار منحط لمكانة المهنة، أخذت قسطًا فعّالًا في الملاحقات لا بل في التشهير والإساءة لسمعة المحامي/ة. أداء نقابة المحامين الإسرائيليّة بعد السابع من أكتوبر (2023) ضد المحامين العرب وصمتها إزاء تفشي ظاهرة اصطياد محامين لزملائهم والتحريض المغرض عليهم.
نماذج الملاحقات عديدة وحتى اللحظة لا توجد معلومات دقيقة حول عدد المحامين الذين استهدفوا منذ السابع من أكتوبر، إما على أثر مواقفهم السيّاسية او على أثر تداخل عملهم مع قضايا وهموم شعبهم. أذكّر بإيجاز ببعض الأمثلة التي برزت وأظهرت وجهًا جديدًا لقواعد الزّمالة المزيفة بين المحامين في البلاد وانجرار نقابة المحامين وراء المحرّضين بشكل أوتوماتيكي، بدل التروّي والحفاظ على الأقل على مكانة المهنة.
ملاحقات على إثر منشورات ومواقف سياسيّة
نشرت المحامية أصالة أبو خضير يوم السابع من تشرين جملة "أشعر أنني بحلم" أرفقت إليها قلوبًا باللون الأخضر والأحمر والأسود، مضيفة تهكمًا موجهًا الى السيد محمود عبّاس. وما أن تم تعميم ما نشرت واعتقالها لاحقًا، حتى سارع زملاؤها، محامون إسرائيليّون، بالتحريض المباشر عليها عبر وسائل التّواصل الإجتماعي، ونشر صورتها مكبّلة ومهانة على الملأ، والمطالبة بسحب رخصة مزاولة المهنة. اجتهد محامون آخرون في النبش وراء السيدة أبو خضير في محاضر المحاكم ليكتشفوا انها اعتقلت في السابق وعائلتها لضلوع واحد من أفراد عائلتها بأعمال ضد أمن الدولة، بل وإثارة التساؤلات حول موافقة نقابة المحامين منحها رخصة لمزاولة المهنة!
المحامية أصالة أبو خضير
كذلك الأمر مع الزميل والناشط أحمد خليفة الذي أعتقل ليلة الـ 19 من شهر تشرين الأول الماضي، عقب هتافات أطلقت في مظاهرة ضد العدوان على غزة والذي حتى تلك اللحظة نسف حياة ما يقارب الـ 6000 فلسطينيًا معظمهم من المدنيين. وغداة إعتقال الزّميل أحمد سارعت "زميلة" إسرائيليّة بالمفاخرة عبر منصتها بالشبكات الاجتماعية، ونشر الشكوى التي تقدّمت بها ضد الزميل أحمد، بادعاء انه شارك في مظاهرة تضامن مع حماس متبنيّة بالكامل رواية الشرطة والشبهات التي نسبت لأحمد وكأنها صحيحة. هنا لا بد أن أشير إلى أن الحديث عن محامية دفاع تعمل في المجال الجنائي تحارب ليل نهار أجهزة الشرطة والسجون، لا بل كانت في السابق محامية لدى المحامي أبيجدور فلدمان، المعروف بمرافعاته بقضايا الفسطينيّين!
المحامي أحمد خليفة
وأما الزّميل سري خوريّة فتم اعتقاله بسبب منشور له إستخدم فيه مجازًا عبارة "الضربة الإلهية"، كمحاولة لوصف حجم أحداث السابع من أكتوبر وعنصر المباغتة الذي ميّزها وعرض الأمر بسياق تحليل سياسيّ. وما ان تم نشر خبر الاعتقال، حتى بدأت حملة التّحريض العلنيّة ضد المحامي خوريّة ليس فقط من زملائه الذين بمعظهم لا يقرأون العربيّة وإن قرأوا لا يفقهون شيئًا بالتحليلات السياسية، إنما أيضًا من نقابة المحامين التي كان فيها عضوًا ناشطًا بهيئات تمثيليّة مختلفة فيها. سارعت نقابة المحامين فور اعتقال المحامي خوريّة بنشر خبر إقصائه عن منصب ما تولاه من قبلها، متبنية رواية الشرطة ومنجرّة وراء نفير المحامين المحرضّين، بدل أن تقوم بإسكاتهم ريثما تتضح الصورة ولو من باب الزمّالة والمعرفة الشخصيّة به. كما سارعت إلى تقديم خوريّة الى محاكمة تأديبيّة قد تكون عواقبها منعه من مزاولة المهنة، وذلك قبل أن تستمع حتى إلى أقواله أو تفسيره لما نشر. تحرّر الزميل سري خورية بعد 10 أيام اعتقالذاق فيها الأمرّيين، كباقي المعتقلين الفلسطينيين، من ظروف اعتقال مهينة أقصاها شهادته الحيّة على احتضارأسير رقد بغرفة مجاورة أمضى ليلة كاملة يصرخ ألمًا حتى فارق الحياة. وعلى الرغم من إغلاق الملف ضد خوريّة لانعدام أي مخالفة أو تهمة بما نشره لم نرَ حتى الساعة أي اعتذار رسمي من نقابة المحامين للمحامي خوريّة لاسيّما أنها أخذت قسطًا مركزيًا بالإساءة لسمعته والسعي وراء حرمانه مزاولة المهنة ظلمًا وبهتانا.
المحامي سري خوريّة
تشجيع مبطّن لثقافة الوشاية التحريضيّة بين الزملاء
تجدر الإشارة إلى أنه بموازاة ملاحقات المحامين العرب وحملات التحريض المقززة ضدهم، لاحظنا بروز ظاهرة تبنّي بعض من المحامين الإسرائيليين دور "صائد السحرة" يكون شغله الشاغل اصطياد المحامين الذين يجرأون على التفكير خارج الإجماع الإسرائيلي التحريضي العام أو التمثيل بقضايا تعنى بالفلسطينيين، وحتى التحريض على القضاة الذين صدرت عنهم قرارات لم ترق "للمحامي الصيّاد". لم نرَ أي تحرك من النقابة ضد هذه الظاهرة، لا بل كان الشعور بأنها تتابع ما ينشره " المحامي الصّياد" غاضة النظر عن الانحطاط السلوكي للمحامي، الذي أصبح شغله الشاغل، ملاحقة الزملاء سياسيًا وسط تشجيع مبطّن للنقابة التي لم تحرّك معه أي ساكن، على الأقل علنيًا كما فعلت مع المحامين العرب.
الامتناع عن "التشهير" أو ملاحقة علنيّة لمحامين حرّضوا على العنصريّة والعنف
امتنعت نقابة المحامين عن لجم المحامين الذين لم يتردّدوا في نشر تصريحات مقزّزة دعوا فيها للإبادة الجماعيّة سواء على الملأ أم بمجموعات المحامين المختلفة في تطبيقات الهواتف الخليويّة. صحيح أننا رأينا في مراحل متقدمّة، صدور مراسيم عامّة من النقابة حذّرت فيها من مغبة التحريض على العنصريّة إلا أننا على أرض الواقع لم نرَ أي إعلان عن تدابير فعلية أو خطوات تمّ اتخاذها والنشر عنها ولم نرَ أي حالة تم فيها استخدام نفس أسلوب التشهير العلني كما فعلت مع المحامين العرب. يكفي هذا لإثبات المكيال بمعيارين.
إعاقة عمل المحامين العاملين على حماية حقوق الأسرى الفلسطينيين
واحد من التضييقات التي لمسناها أيضًا مؤخرًا هو استهداف المحامين الفلسطينيين الذين يقصدون السجون للاطلاع على أوضاع الأسرى وفحص إمكانيات التدخل القانوني بالحالات المناسبة. وفيما لم تتردد النقابة في الماضي بالاحتجاج أمام مصلحة السجون إزاء كل تعويق غير مبرر لمحام هذا أو ذاك أو تفتيش مهين له عند دخوله السجن أو العبث بأوراقه، نرى النقابة اليوم شريكة ومصلحة السجون ليس فقط بمنع المحامين من أداء مهنتهم بتفقد أوضاع الأسرى، بل وبعرضهم أمام محاكم تأديبيّة بذريعة وجود مستندات بأوراقهم تشير إلى نية المحامي إيصال رسائل من عائلة الأسير إليه أو لوجود معلومات سريّة تفيد بأن المحامي يدخل السجن ليس لأداء مهنته وإنما خدمة لجهات معادية. وبدل أن تتخذ النقابة موقفها الواضح في قضية سريّة الوثائق بين المحامي والموكّل وتضرب بالشكاوى المقدمة ضد المحامين بهذا الشأن عرض الحائط لمجرد مساسها بتابوهات أساسيّة بعمل المحامين، إختارت أن تتماهى ومصلحة السجون لتجعل من مبدأ سريّة الوثائق انتقائيا دون أي غطاء قانوني.
استهداف محامي زيارات السجون التي يقبع فيها الفسطيني هو أمر شهدناه كثيرًا في كل فترة طوارئ بدءًا من إضرابات الأسرى الفرديّة والجماعية عن الطعام مرورًا بحالات طوارئ واقتحامات لأقسام الأسرى وانتهاء بفترات حروب أو حالات طوارئ سياسيّة. وخلافًا لفترات سابقة اكتفت فيها مصلحة السجون بمنع المحامين الدخول كوسيلة لحجب المعلومات عمّا يجري داخل السجون عن العالم الخارجيّ، نرى اليوم تبني سياسة استهداف للمحامين عبر تقديم شكاوى للنقابة يتم فيها توجيه اتهام للمحامي بإساءة استخدامه مهنته وتعريضه لمساءلة قانونيّة مبنيّة على مواد استخباراتيّة أو بيّنات تمت مصادرتها من المحامي بشكل غير قانوني. ناهيك طبعًا عن أن الحديث عن محامين يدخلون بمعظمهم السجون ولاءً لمهنتهم التي تلزم تفقد أحوال موكليهم وحماية حقوقهم دون أي علاقة للأعمال المنسوبة إليهم كسائر المحامين في هذا المجال. وناهيك أيضًا عن الأهمية البالغة اليوم بالذات لزيارات تفقديّة للسجون حتى بدون وجود أي إجراء قضائي عالق في المحاكم، وذلك لحرمان عوائل الأسرى من الزيارات منذ السابع من تشرين الماضي والتقارير اليوميّة الصادرة بناء على شهادات أسرى تم تسريحهم وأشركونا في الويلات التي حدثت وما زالت تحدث داخل السجون.
إن تماهي نقابة المحامين مع مثل هذه الإجراءات هو رسالة إضافيّة لنا كمحامين بأن حمايتها لحقوقنا وواجب الولاء لموكلينا (وهو من أقدس أخلاقيّات مهنتنا)، منوطة بهويّة الموكل وبالرسالة المهنيّة التي نحملها.
إزدواجية المعايير لدى النقابة بنشاطها لحماية حقوق الإنسان ومبدأ سيادة القانون
إن إزدواجية المعايير لدى نقابة المحامين الإسرائيليّة، لا تكمن فقط بتعاملها مع المحامين العرب والتخلي عنهم أو بملاحقتهم، بل أيضًا بأمور أخرى لطالما رأت النقابة أن من واجبها القيام بها وفقًا لتعريفها حسب القانون. أبرز هذه الأمور هو تجندها الواضح من أجل حماية حقوق السجناء محكومين كانوا أم مشتبهين. للأسف، وعلى الرغم من مراكمة الشهادات التي رشحت من السجون حول أوضاع الأسرى الفلسطينيين وما ألم بهم من تعذيب وتجويع وتنكيل وسياسات تحقيريّة داخل السجون، لم نسمع أي موقف علني مُدين للنقابة أو نشاط قضائي خاص كما فعلت خلال فترة تفشي وباء الكورونا على سبيل المثال وبقضايا عديدة أخرى. وعلى الرغم من الصلاحيّة التي تملكها بالدخول إلى منشآت السجون لتفقد أوضاع السجناء، لم نرها تكلف نفسها أدنى جهد للذهاب وتفقد أوضاع آلاف المحتجزين. لاقى قرابة 50 أسيرًا فلسطينيًا حتفه في السجون وحتى هذا المعطى المخيف، لم يحرك أي ساكن لدى النقابة حامية حقوق المعتقلين. وكأن دور النقابة في المقارعة لحماية حقوق الموكلين ينحصر فقط حينما ينتمون الى تنظيمات الإجرام أو الضالعين بجرائم تصنّف جنائيّة، وفيما عدا ذلك لا تسري أي من المعايير والشعارات التي تحملها فيما يخص حقوق المعتقلين والسجناء.
نستطيع القول إن أحداث السابع من أكتوبر الماضي، رسمت مجددًا وبشكل واضح حدود علاقة النقابة مع المحامي الفلسطيني في البلاد والتي بزغت براعمها قبل السابع من أكتوبر. فدور حماية "المصلحة العامة" الذي تبنته نقابة المحامين استند ظاهريًا على مبادئ حقوق الإنسان وسيادة القانون، إلا أن نماذج تقاضيها في المحاكم باسم حقوق الإنسان وسيادة القانون تحدثت دائمًا عن "المصلحة العامة"، حينما مس الأمر بالموكّل والمحامي الإسرائيلي على حد سواء. الفلسطيني دخل "بالمعيّة" طالما لم يكن الحديث عن ممارسات قمعية موجهه ضده تحديدًا وضد مواقفه ومواقف محاميه. وحتى على مستوى قوانين تمييزية أو قمعيّة لم نرَ النقابة تحتج على أي من القوانين التي هدفت تقويض الحريّات السياسيّة للمواطنين الفلسطينيين في البلاد كقانون النكبة أو قانون منع الدعوة للمقاطعة او حتى قانون منع السكن للعرب في "البلدات الجماهيريّة". بكلمات أخرى فإن تجند نقابة المحامين لنصرة حقوق الإنسان يستثني ضمنيًا أي نوع من الممارسات الموجهة ضد المحامي او موكله لكونه فلسطينيا. فالإعتراف بخصوصيّة المحامي الفلسطيني يكون بإكرامه بموائد الإفطار ومعايدته بأعياد الفصح والأضحى والميلاد والنبي شعيب أو بمشاركته بدورة تثقيفية بالقرية أو بتعيينه لمنصب هذا أو ذاك.
وإن كنّا قبل السابع من اكتوبر نشتكي صمت النقابة، وعدم تحريكها أي ساكن إزاء الممارسات الموجهة عمدًا ضد الفلسطينيين كمحامين أو كموكّلين، جاءت أحداث السابع من تشرين وما تلاها لتضيف الى هذا الصمت المدوّي دورًا فعالًا بملاحقة المحامين وعدم توفير أي نوع من الحماية لهم.
ومن هنا وجب علينا التفكير الجدي بإقامة هيئة حقوقيّة مهنيّة توفر بيئة آمنة للمحامين والمحاميّات العرب، تساندهم بأزماتهم الجمعية والفردية، وتحمي أعضاءها من الملاحقات القضائيّة والسّياسيّة، ومن القيود والانتهاكات بحقهم إلى جانب الدعم المهني والتثاقف المتبادل من أجل بناء شبكة مهنيين محررين من القيود السلطويّة وقادرين على العطاء بشكل حرّ ومستقل وبثقة وبكرامة.