الكاتب: د. مصطفى البرغوثي
تمثل التحولات الجارية في إسرائيل منذ انتخاباتها في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، وخصوصاً بعد السابع من أكتوبر (2023) أمراً أكبر بكثير من مجرد تعاظم الطابع العنصري الشوفيني للحركة الصهيونية، وأكبر بكثير من تصاعد العدوانية العسكرية، ومن تفاقم تأثير الصهيونية الدينية، لأنها تمثل تحولات أعمق من تغييرات على مستوى القيادات السياسية والعسكرية، بل تشمل غالبية المجتمع الإسرائيلي اليهودي .
إنها تحولات نحو الفاشية، وتمثل المستعمرات الاستيطانية في الضفة الغربية إحدى أهم قواعد ومحفزات التحولات الجارية، وهي تحولات لم نر ما يماثلها، على مستوى مجمل القيادة السياسية والمجتمع إلا في نموذج صعود القومية المتطرفة في ألمانيا قبيل الحرب العالمية الثانية. وبكلمات أخرى، ليست إسرائيل التي نراها اليوم ليست مجرد كيان استعماري استيطاني يمارس الاحتلال الأطول في التاريخ الحديث، ويحاول تخليد التطهير العرقي الذي ارتكبه ضد الشعب الفلسطيني عام 1948 بل ويوسعه، وليست مجرد نظام الأبارتهايد والتمييز العنصري الأسوأ في تاريخ البشرية الحديث، بل هي أكثر من ذلك كله، لأنها تمثل تحولاً نحو أيديولوجية وممارسات لا يمكن تصنيفها إلا أنها فاشية، وقد اكتسبت هذه التحولات تسارعاً غير مسبوق منذ السابع من أكتوبر.
ويمثل صعود الأصولية الدينية اليهودية عنصر دفع كبيرا في ذلك الاتجاه، ليس فقط بسبب تطرفها الشديد، بل لأن عنصريتها تنسجم تماماً مع عنصرية الحركة الصهيونية التي تفترض تفوق العرق اليهودي وسياديته في فلسطين، وتنفي وجود الآخر، بل يمكن القول أن عنصرية الفكر الصهيوني هي التربة الخصبة التي تترعرع فيها الأيديولوجية الفاشية، إذ ما هو الفرق، في نهاية المطاف بين القول بتفوق العرق "الآري" واستخدامه مبررا لممارسة الهولوكوست ضد اليهود أنفسهم، وبين الايمان بتفوق العرق "اليهودي"؟
مثلت الممارسات الوحشية والقمعية الانتقامية في قطاع غزة تعبيراً صارخاً عن السلوك الفاشي، بما في ذلك التدمير الهمجي للبنية التحتية، و شبكات المياه والكهرباء والمجاري، والمدارس، والمستشفيات والعيادات الطبية وجميع الجامعات، ونسف وتدمير ما قد لا يقل عن 90% من مساكن غزة وبيوتها.
كما كان القتل الجماعي بالقصف لأحياء وعائلات بأكملها وللمدنيين العزل، دون سبب أو مبرر، نموذجاً آخر طالت آثاره ما لا يقل عن 50 ألف شهيد ومنهم 17 الف طفل.
غير أن النموذج الأكثر تعبيراً كانت عمليات الاعدام الميدانية لمئات وربما آلاف الفلسطينيين، ودفن بعضهم أحياء وأيديهم مقيدة في مقابر جماعية، بالإضافة إلى المعاملة اللاإنسانية للأسرى والمعتقلين، بتعريتهم وضربهم وتعذيبهم، وإهانة كرامتهم.
ولا يقل خطورة عن ذلك كله الترويع والتخويف النفسي الذي تعرض له جميع سكان غزة رجالاً ونساء وأطفالاً، وترحيلهم المرة تلو الأخرى، ومن ثم قصفهم المرة تلو الأخرى، وإشاعة شعور عارم لديهم بانعدام مطلق للأمان ولمقومات الحياة.
ويضاف إلى ذلك إستخدام سلاح التجويع والقتل البطيء، والسماح بانتشار الأوبئة الخطيرة، كإلتهاب الكبد الوبائي، والسحايا، وربما لاحقا شلل الأطفال والكوليرا، بحرمان الناس من المياه الصالحة للشرب، والغذاء والخدمات الصحية والطبية.
وجاء ما انكشف من ممارسات التعذيب ضد الأسرى والأسيرات في السجون، وكثير لم يكشف بعد، ليؤكد أن هذه الممارسات بما في ذلك إرتكاب الجرائم الجنسية والاغتصاب الجماعي والمتكرر للأسرى، لا يقوم بها إلا من تربواعلى الفكر الفاشي الاجرامي.
وحتى عندما حاول الجيش، وقادة إسرائيليون ، من خلال الشرطة العسكرية حماية من ارتكبوا هذه الجرائم، من محاسبة محكمة الجنايات الدولية، عبر إجراء تحقيقات شكلية معهم لإدعاء احترام إسرائيل للقانون، تصدى قادة الفاشية من نواب ووزراء وقادة أحزاب، للجيش نفسه وحاولوا منع إجراء تلك التحقيقات.
وتذكرنا مناظر اشتباك هؤلاء مع بعض جنود الجيش، وتعطيل ما يسمى بوزير الأمن الداخلي، الفاشي بن غفير إرسال الشرطة لوقفهم، بما كانت تقوم به عصابات القمصان السوداء التي جندها الفاشيون في أوروبا.
وعندما يبدأ الفاشيون في الهجوم حتى على بعض مكونات مؤسستهم نفسها، رغم صهيونيتها، فذلك دليل قوي على عمق التحولات الفاشية الجارية.
ولا تقتصر مظاهر السلوك الفاشي على وزراء الحكومة الإسرائيلية ومؤسساتها الأمنية، بل تمتد لمن يدعون أنهم يمثلون المعارضة بمن فيهم يائير لبيد الذي أصدر تصريحاً قال فيه أن "الصحافة الموضوعية، أي التي تذكر الرأي والرأي الآخر، تخدم حركة حماس". ومعنى ذلك أن على الصحافة العالمية أن تذكر وتنشر ما تقوله المؤسسة الإسرائيلية الصهيونية فقط، وتمتنع عن ذكر أي رأي آخر. أليس هذا ما كانت تتبناه الأنظمة الفاشية والديكتاتورية ؟
وعندما خطب نتنياهو في جلسة العار في الكونغرس الأمريكي، فإنه واصل الكذب من دون توقف، بوقاحة منقطعة النظير لخمسين دقيقة أو أكثر، وأكبر أكاذيبه كانت إدعاؤه أن الجيش الإسرائيلي لم يقتل أي مدني في هجومه على رفح. وكلما حاول نتنياهو تقمص صورة روزفلت او تشرشل، وربما زيلينسكي، في الوقت نفسه، كانت تخرج صورة غوبلز رجل الدعاية الكاذبة النازية الذي آمن بأن تكرار الكذب واعادته يجعله حقيقة. ويمثل مستوى الانحطاط في أكاذيب الروايات الإسرائيلية غير المسبوق، مؤشراً آخر للتحول الفكري نحو النمط الفاشي.
لا مكان لحقوق الانسان، ولا احترام للقانون الدولي، ولا استعداد للإلتزام بالقانون الانساني الدولي، ولا تقدير لحياة الفلسطيني رجلاً كان أم امرأة أو طفلا بريئا، فالغاية تبرر الوسيلة مهما كانت وحشيتها ولا انسانيتها. هذه هي صورة الكيان الإسرائيلي التي تتبلور.
لا احترام لحصانة الدول وسيادتها، ولا اعتبار للمخاطر التي يجرها ذلك السلوك، فالغاية تبرر الوسيلة في عمليات الاغتيال التي يمارسها الجيش الإسرائيلي في لبنان وايران واليمن و غيرها.
أما سلوك المستوطنين الذين يتجولون في عصابات مسلحة بحماية جيش الاحتلال ودعمه، ليعيثوا فساداً، وقتلاً وحرقاً، في القرى والبلدات الفلسطينية، و ما يقومون به من تطهير عرقي لتجمعات سكانية بكاملها، فذلك أسطع الأدلة على التحول الجاري نحو الممارسات الفاشية....وعندما يصل الأمر بالفاشيين إلى مهاجمة وتحقير كل من يختلف معهم من الإسرائيليين أنفسهم، فذلك هو المؤشر الأوضح على الدرجة التي وصل إليها صعود الفاشية.
السؤال الأهم، لماذا تصمت معظم الحكومات الغربية على كل مظاهر السلوك الفاشي المتفاقمة، رغم معرفتها بها؟ بل ولماذا يواصل معظمها تزويد إسرائيل بالسلاح وأدوات القتل، والدعم الاقتصادي، وينبرون في مجلس الأمن للدفاع عن إسرائيل، حتى عندما ترتكب الاغتيالات الوحشية على أراضي دول ذات سيادة؟ وهل ذلك الصمت أمر فريد؟.....هو بالتأكيد ليس فريداً فالمطلعون على التاريخ يعرفون كيف صمتت حكومات غربية تدعي الديمقراطية على صعود الفاشية الألمانية، بل عقدت اتفاقات التواطؤ معها كما فعل رئيس الوزراء البريطاني في حينه، تشمبرلين، إلى أن تجاوز هتلر كل الحدود وبدأ باجتياح أجواء وأراضي تلك الدول نفسها.
ألم تصمت دول غربية كثيرة، وعلى رأسها حكومات الولايات المتحدة على النظام الفاشي الاسباني بقيادة الجنرال فرانكو لسنوات طويلة بحجة العداء للاتحاد السوفياتي؟
ألم تتعاون الولايات المتحدة وتدعم سنوات طويلة النظام الفاشي الذي قاده الجنرال بينوشيه في تشيلي، بعد أن ساعدته على الإنقلاب على الحكومة المنتخبة ديمقراطياً؟
لن تنجح الفاشية الإسرائيلية ولن تدوم، مهما بلغت غطرستها، ليس فقط لأن هناك شعبا فلسطينيا صامدا ببسالة وبطولة منقطعة النظير، بل وأيضاً لأن الفاشية لا تملك مقومات الدوام. وفي التاريخ الحديث عبر كثيرة لمن يريد أن يتعظ، وليس بين هؤلاء نتنياهو، أو بن غفير أو سموتريش لأن وجودهم نفسه صار مرتبطاً ببقاء الفاشية.
ولكن لا يحق بعد اليوم لأحد ممن يدعون الحرص على القانون الدولي، وحقوق الانسان والديمقراطية الذين يواصلون دعم إسرائيل والدفاع عنها بعد كل الجرائم التي ارتكبتها، أن يواصلوا توجيه النقد للفلسطينيين، أو ترويج سلوكهم المنافق الذي صار يثير الغثيان.