الكاتب: الدكتور عدوان نمر عدوان
يطرح عدد من الأخوة في سجالاتهم طرحا اختزاليا مهينا للشاعر محمود درويش متمثلا في علاقته بفتاة يهودية اسمها ريتا، فيقولون "كتب أشعارا وطنية وما لقي إلا أن يحب يهودية" وكأن هذا لا يتوافق مع ذاك.
هذا الطرح الاختزالي يوقع في مغالطة التعميم، فيعممون على حياة محمود درويش وشعره أمرا يشتم منه رائحة الانحراف أو التخوين أو التفريط أو الإفراط، وهذا غير صحيح؛ لأن الشاعر محمود درويش قصر حياته على كتابة الوطنيات والذاتيات المتصلة بالجمع الفلسطيني، والكينونة الإنسانية في مجمل مسيرته الشعرية، فتحس تحت كل بيت من أبيات شعره، وتحت كل مقطوفة نثرية قلبا فلسطينيا يدق، وحجرا كنعانيا يتكلم.
كما أن هذا الطرح يوقع في مغالطة التحيز الإنساني، فالشاعر ممكن أن يكون وقع في حب الفتاة اليهودية وقوع المحب الوله- ونحن في اللغة نستعمل فعل الوقوع للدلالة على مفاجأة الغفلة التي يقع فيها المحب- ولا يوجد مانع وطني، ولا ديني، ولا إنساني يمنع ذلك، فمن الممكن للمسلم أن يحب فتاة من غير دينه، ويمكن أن يتزوجها، وحتى اليهود المتعصبين ممكن أن يقعوا في قصص حب، ولا أدل على ذلك من رئيسة الكيان نفسه "جولدا مائير" التي كان لها علاقة حميمية مع شاب فلسطيني عربي، فهذا أمر سائر على الكثيرين، وجار على قلوب الناس.
ما عرفناه عن ريتا هو من خلال أشعار درويش، والحكايات التي طوفت حوله لا سيما قصيدتيه" ريتا والبندقية" "وشتاء ريتا"، ومحمود درويش شاعر، والشاعر له أن يتزيد في شعره، ويضع البهارات على طعامه الفني دون أن يبالغ مبالغة فاضحة تبدو أكبر من حجمها المعتاد، أو يغالي غلوا مغرقا يفسد المعنى.
محمود درويش كان شاعرا شابا، والشاب ربما تفاخر وتنافخ بسرديات نرجسية، وخاصة أنها يهودية فمن باب الغزو المضاد تفاخر بغزوته مع اليهودية بصورة تبعث الإعجاب عند قرائه ومستمعيه.
وإذا رددنا نسق القصيدة على سياقها فلا بدّ أن نستذكر أن شعراء الأرض المحتلة وأهلها في ال (48) كانوا من المفقودين، فلم يك أحد يعلم عنهم لعشرين عاما شيئا، وكان العالم العربي قد ظن أنهم من المنسيين المتروكين الذين ابتلعهم غول الاحتلالحتى فاجأوهم بعد ال (٦٧) بأشعار وطنية عميقة، ففطن الناس أن هناك عربا، وفطن النقاد والشعراء إلى أن هناك شعراء كبارا مثل مصابيح الدجى يأخذون من زيتهم قطرة، ويقتبسون من نورهم جمرة، فساجلوهم ومدحوهم وحاوروهم، أقول لقد كانوا من المنسيين، وعاشوا تحت حكم اليهود في كل شيء، وحملوا الجوازات الإسرائيلية، وعاشروا اليهود في يومياتهم وأعمالهم ومجريات حياتهم، وانقطعوا عن العالم العربي، وصار لقاؤهم بعربي من نوادر الزمان وعجائبه وغرائبه، وقد ذكر لي أحدهم عن شخص من بلدهم أنه التقى بعبد الحليم حافظ في مطار أوروبي ربما إيطاليا حسبما أتذكر، فعاد الرجل إلى بلده متفاخرا أنه شاهد عبد الحليم حافظ، والناس تقول له: "معقول التقيت بعبد الحليم حافظ وشفته !" يقولون ذلك بإعجاب شديد يصل إلى عدم التصديق، وكأن هذا الشخص نال حظا عظيما حظا مثل حظ النبيين حتى أطلقوا عليه في بلده حين يريدون التعريف به" يا زلمه مش عارفه لفلان، هذا اللي شاهد عبد الحليم".
محمود درويش ليس بدعا من كل هذه الأجواء والانقطاعات ومظالم الزمن الصهيوني، فربما أحب يهودية تقشر تفاحتها بعشر زنابق، وآنسها وآنسته، لكنه تركها عندما اكتشف أنها جندية إسرائيلية لا تريد أن تتخلى عن جنديتها؛ فبعده الوطني كان أكبر من حبه مهما كان دافئا، وترك بعدئذ جواز السفر الإسرائيلي وكل فلسطين المحتلة، والتحق بمنظمة التحرير الفلسطينية، وبالفدائيين الفلسطينيين في المنافي، وهذا مما يحسب له. محمود درويش مثقف التحم بشعبه وقضيته بسياق زمانه، ولو وجد محمود درويش اليوم في سياق زمن غزة لتعمد المحتلون قتله كما قتلوا الصحفيين والفنانين والجامعات، فهم لا يريدون فلسطينيا أحب يهودية أو كرهها، مثقفا أو غير مثقف، شاعرا أو ناثرا، فالفلسطيني الجيد ليس الذي تحت التراب كما قال زعماؤهم بل الذي لم يوجدمن العدم؛ لذا يقتلون الطفل في بطن أمه قبل أن يوجد، والنطف في الأصلاب قبل أن تظهر. إن محاولة قتل محمود درويش الشاعر والإنسان لا تتوقف عند العامة والمختزلين لتصل إلى شعراء من أنصاف المواهب الشعرية الذين وجدوا فيه صنما يصعب تحطيمه في عالم الشعر، ومقتبس النار المتحوط الذي يستحيل السطو عليه، وكلما علا نجم درويش الشعري انتدب له الرامون ليوجعوه في قبره برميات سهامهم.
محمود درويش مثله كمثل البطل إخيلوس شخص خالد إلا من عقبه البشري ذي الرائحة المزعجة، فلا تجعلوا مقتله في قصيدة أو قصيدتين بنقد سام كما جعل اليونانيون مقتل بطلهم الخالد من عقبه البشري بسهم سام.