الكاتب: د. جمال زحالقة
ما زال شبح مواجهة عسكرية إقليمية واسعة يخيم على الشرق الأوسط. وتسود أجواء من التوتّر الشديد في الدولة الصهيونية في انتظار رد حزب الله على اغتيال قائده العسكري فؤاد شكر في بيروت، وفي ترقّب لهجوم إيراني واسع بعد العملية الإرهابية الإسرائيلية في طهران، التي ذهب ضحيتها إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس. وفي محاولة لثني حزب الله عن الرد تهدد إسرائيل باستهداف الضاحية الجنوبية ومرافق حيوية في لبنان، وتتوعد بأن ردّها على رد الحزب سيكون أضعافا مضاعفة. وعلى المنوال نفسه، تسرّب إسرائيل بأنّها مستعدّة للمخاطرة بقصف مواقع الصناعات البترولية والعسكرية والنووية في الجمهورية الإسلامية.
الإدارة الأمريكية من جهتها، تقوم بجهود محمومة لمنع اندلاع مواجهات عسكرية كبيرة في المنطقة، على الأقل قبل انعقاد مؤتمر الحزب الديمقراطي، الاثنين المقبل، في مدينة شيكاغو، الذي من المتوقّع أن ينتخب كامالا هاريس مرشّحة للرئاسة. وقد أخذ المسعى الأمريكي ثلاثة مسارات أساسية: الأول، تفعيل ضغوط «دبلوماسية» على حزب الله وإيران، عبر مبعوثين ووسطاء، للامتناع عن التصعيد، ويبدو أنها كانت محاولة ضعيفة الأثر. الثاني، حشد قوّات أمريكية ضخمة وتشكيل تحالف دولي وإقليمي، تحت مظلة المنطقة الوسطى للجيش الأمريكي، بقيادة الجنرال كوريلا للدفاع المباشر عن إسرائيل، في مواجهة هجوم إيراني ممكن، والثالث، الخروج بمبادرة لاستئناف مفاوضات صفقة التبادل ووقف إطلاق النار في غزة، والترويج الدراماتيكي المصطنع لها، ولفرص نجاحها في مبغى لتبريد التلهّف الإيراني (واللبناني) للرد على عمليتي الاغتيال في طهران وبيروت. في ظل التسخين المتزايد على جبهة الصدام بين الجمهورية الإسلامية والدولة الصهيونية، نشأت تطورات وازنة سيكون لها أثر بعيد المدى على مجمل ما يجري في منطقة الشرق الأوسط، خصوصا بكل ما يتعلق بالاستراتيجيات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية. فما يجري هذه الأيام سيكون له أثر بعيد المدى على طابع وسياق وشكل الصراع في المرحلة المقبلة.
عودة إلى الجدار الحديدي
لا تبرير للتحالف مع إسرائيل ضد إيران، وعلى الضمير العربي أن يخرج عن صمته وأن يرفع صوته عاليا بأن لا للتحالف مع إسرائيل ولا للدفاع عنها
في محاضرة له قبل سنتين، لخّص الجنرال احتياط يعقوب عميدرور، أبرز ممثلي تيار «اليمين الأمني» في إسرائيل، مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي: «المبدأ الأول هو «الجدار الحديدي»، الذي صاغه جابوتنسكي عام 1923، والثاني هو مبدأ بن غوريون «إسرائيل تدافع عن نفسها بنفسها»، الذي اعتُمد عام 1950. والباقي تفاصيل». وباختصار تنص استراتيجية «الجدار الحديدي» على لزوم أن يحيط الكيان اليهودي الصهيوني، نفسه بجدار حديدي تتحطّم عليه المحاولات العربية لضرب هذا «الكيان»، وتوقّع جابوتنسكي (القائد والمنظّر الأول لتيار اليمين الصهيوني، الذي يمثله الليكود حاليا) بأن لا يقبل العرب بسلب أرضهم وبالتصالح مع المشروع الصهيوني، إلّا بعد أن يكرروا الهجوم عليه المرة تلو الأخرى إلى أن يصيبهم اليأس من القضاء عليه، وعندها يمكن التفاوض معهم على تسوية مقبولة. لقد كتب جابوتنسكي مقاله عن «الجدار الحديدي»، قبل إقامة إسرائيل بربع قرن، وقبل تشكيل قوّة عسكرية صهيونية مقاتلة بسنوات طويلة، فعلامَ اعتمد جداره الحديدي إذن؟ لقد جرى إغفال هذا السؤال من قبل غالبية الباحثين العرب، وحاول معظم المؤرّخين الإسرائيليين طمسه. لقد أعطى جابوتنسكي، في حينه، جوابا واضحا ومحددا وهو أنه من المفروض أن يعتمد الجدار الحديدي على «الحراب البريطانية» بشكل فعلي ومباشر. وبعد إقامة الدولة الصهيونية، جاء بن غوريون وتبنّى مفهوم «الجدار الحديدي بالكامل» مع تغيير جوهري واحد وهو أن «إسرائيل تدافع عن نفسها بنفسها»، وليس بحراب دول أخرى. بقي مبدأ بن غوريون ساري المفعول حتى الهجوم الصاروخي الإيراني في 14 أبريل/نيسان 2024، حيث تصدّت له «حراب» أمريكية وبريطانية وفرنسية وعربية، ولولا هذه الحراب لتعرّضت الدولة الصهيونية لضربات موجعة ولأضرار بالغة. وهذا سياق مختلف عن العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، الذي كان عمليا تحالفا استعماريا عدوانيا لبريطانيا وفرنسا وإسرائيل، كانت غايته القضاء على حراك التحرر من الاستعمار، الذي قاده المرحوم جمال عبد الناصر. إن اضطرار الدولة الصهيونية للاحتماء بقوات التحالف الأمريكي، هي دليل على أنّ القوّة العسكرية العملاقة، التي جرت مراكمة بنائها على مدى قرن من الزمان، لم تعد كافية للدفاع عن «أمن إسرائيل». ويدفع ذلك القيادة الإسرائيلية لتطوير استراتيجيات للتعامل مع هذا العجز، تنطلق من اتجاهين متناقضين ظاهريا ومتكاملين عمليا: تقوية الاعتماد على النفس وتطوير القدرات الذاتية، وصولا إلى تطبيق كامل لمبدأ بن غوريون: «إسرائيل تدافع عن نفسها بنفسها. الاتجاه الثاني هو تعزيز التحالف الاستراتيجي الإقليمي تحت المظلة الأمريكية وضمان فولذة «الجدار الحديدي»، استنادا إلى «الحراب الأمريكية»، عند الضرورة. ويكون التكامل بين المسارين بالعمل على الاعتماد على الذات قدر المستطاع، والاستعانة بالحراب الأجنبية إن لم يكف هذا المستطاع.
الحراب العربية
لقد تحدث جابوتنسكي عن حراب الإمبراطورية الداعمة والحامية للمشروع الصهيوني، والتي كانت ذات يوم بريطانية وصارت اليوم أمريكية. لكنّه كتب عن العرب باحترام، وبأنهم لن يقبلوا بمن يأخذ منهم أرضهم ووطنهم ولم يتوقّع ولم يتخيّل أن تُسخّر «الحراب العربية» في الدفاع عن إسرائيل. لقد حدث ذلك فعلا في أبريل المنصرم، ويجري هذه الأيام ترتيب وتنظيم تجهيزات واستعدادات ضخمة لتكرار حالة الحزام الأمني الحامي للدولة الصهيونية. في الهجوم الإيراني في أبريل الماضي، جرت عدة تطوّرات من الوزن الثقيل. لأول مرة لم تدافع إسرائيل عن نفسها، واعتمدت على حماية التحالف الأمريكي، ولأول مرّة أيضا شاركت قوات عسكرية عربية في الدفاع عن إسرائيل، ولأول كذلك، شنت الجمهورية الإسلامية هجوما واسع النطاق على إسرائيل. هذه تطوّرات استراتيجية مهمة تنذر بتحوّرات جيوسياسية مرعبة.
السؤال الصعب هو كيف يمكن أن يستوعب العقل العربي، ناهيك عن الوجدان والأحاسيس، قيام قوات عربية بالدفاع عن إسرائيل، وهي تمارس إبادة جماعية على جزء من الأمة العربية والشعب الفلسطيني؟ لن تنفع هنا رطانة «للدول مصالح» وتبريرات تتعلق بالسياق وبالدوافع وبمواجهة خطر «التمدد الإيراني». لا تبرير للتحالف مع إسرائيل ضد إيران، وليس مقبولا الادعاء بأن ما جرى ويجري هو في إطار التزامات بعض الدول العربية في تعاونها العسكري مع الجيش الأمريكي تحت مظلة «المنطقة الوسطى». على الضمير العربي أن يخرج عن صمته وأن يرفع صوته عاليا بأن لا للتحالف مع إسرائيل ولا للدفاع عنها. هناك ادعاء بأن المساهمة العربية في الدفاع المباشر عن إسرائيل هامشية وثانوية. وحتى لو كانت كذلك فهي مرفوضة بحد ذاتها، ومرفوضة أيضا لأن الدفاع عن إسرائيل يعني تلقائيا الهجوم على فلسطين. ولكنّها في الواقع ليست هامشية، فهي توسّع بشكل دراماتيكي المجال الاستراتيجي الإسرائيلي، وأراضي وأجواء ومياه دول عربية مفتوحة لقوات التحالف المدافعة عن إسرائيل، وتساهم في هذا الجهد «الدفاعي» محطات ومرافق رصد واستشعار، تابعة لعدد من الدول العربية، ووصل الأمر بأن يقوم طيران عربي بالتصدي لصواريخ متجهة نحو إسرائيل. لم تكن تلك حالة عابرة، وهناك إمكانية بأن يتكرر كل ذلك على نطاق أوسع.
محاولات تهميش فلسطين
تحاول إسرائيل استغلال تصعيد المواجهة مع إيران لتحقيق عدة غايات، وفي مقدمتها تجنيد الولايات المتحدة ودول الغرب لتحالف معاد للجمهورية الإسلامية، وحتى لو حمل الاصطفاف العسكري الحالي طابعا «دفاعيا» فهو يحمل في طيّاته إمكانيات الانتقال إلى الهجوم في ظروف معيّنة. وثانيها، إقامة تحالف إقليمي فعّال مع عدد من الدول العربية عبر تخويفها بالبعبع الإيراني، وثالثها، الادعاء بأن إسرائيل هي في حالة دفاع عن النفس في وجه هجوم إيراني متعدد الجبهات يرمي للقضاء عليها، وتحويل الأنظار عن كونها دولة تمارس الإبادة الجماعية والدمار الشامل في غزة، وترتكب الجريمة تلو الجريمة بحق الشعب الفلسطيني وغيره من الشعوب العربية. وإذ تسعى إسرائيل للتغلغل من الثغرة الناجمة عن التوتر القائم بين إيران وعدد من الدول العربية، فإن من واجب من يريد أن يضع حدا للجريمة الإسرائيلية أن يعمل على سد هذه الثغرة. وهناك أساس للاعتقاد بأنه لو كانت العلاقات العربية الإيرانية على ما يرام، لكان من الصعب جدا على القيادة الإسرائيلية إقناع الأنظمة العربية بالتحالف معها. لقد أصبح الخلاف العربي الإيراني نقطة الضعف الكبرى التي تبيح الدوس على الكرامة العربية والدفاع عن إسرائيل. يمكن ويجب سد ثغرة الصدع بين إيران وبعض الدول العربية ومحو نقطة الضعف، والانطلاق بقوة لمحاصرة العدوان الإسرائيلي.