الكاتب: محمد موسى مناصرة
منذ عشرة أشهر ويزيد، وشعبنا في قطاع غزَّة يسبح بدمه في المقتلة، ومع ذلك، تعرَّض للخذلان من مكونات النظام الدولي الغربيّة، ومن الحكّام العرب (الذين كان بمقدورهم وقفها في بداياتها) ومن تردد وتقاعس المنظمات الحقوقية الدوليّة وقلّة حيلتها،.
وما هو أكثر تعرَّض للخذلان من المنظّمات الفلسطينيّة والنخب الثقافيّة لتخليهم عن دورهم في إثارة الأسئلة وإعمال الفكر، وعن تقديمهم قراءات لما هو غير ظاهر أو اجتراح ما يفيد لحمايته من الإبادة. وبدلا من ذلك اصطفّوا في جوقة ضابط الإيقاع، غاب العقل فيهم، وأغلقوا الأبواب أمام الأسئلة، وبات كلّ من يثير الأسئلة بشأن ما هو راهن، أو يقدِّم رأيا مخالفا رموه بنقيصة "العيب"!، أو اتَّهموه بالعداء المقاومة!.
ومن اصطفّوا مع جوقة ضابط الإيقاع ذهبوا لما هو أبعد، أن كل من ينتقد الإخوة في حركة حماس على إتِّباعهم الفهلوة والارتجال في قراراتهم وعملهم، وكل من يثير الأسئلة بشأن جهل القادة فيهم بقدرات العدو وطريقته في التفكير، والجهل بمخططاته، يوصف بأنه في صف الأعداء!
هؤلاء أنصار كم الأفواه، بعضهم عن جهل، أو من أنصاف المثقفين، أو يمثلون اليمين الفاشي قومي أو ديني بيننا، تجاهلوا بأن حركة حماس ليست الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، ولا تملك توكيلا بتمثيل لا مصالح الشعب ولا مصالح الله في قطاع غزة. ولم يتوقف هؤلاء عند حقيقة أن حماس ليست كما عرَّفها فتحي حماد على قنوات الإعلام باعتبارها :"حلقة من حلقات النبوة، وهي التي تنوب عن مسيرة الإسلام من لحظة نزول الوحي على الرسول"! وتصريحاته بأن: "حماس هي الحركة المباركة التي بشَّر بها الرسول"! علما بأن فتحي حمّاد وزير الداخلية والأمن الوطني في سلطة اختطاف قطاع غزة ما بين 2009 – 2016 وعضو المكتب السياسي منذ العام 2017 ، لم يُقدِّم للشعب وثيقة موقَّعة من الله ولا من رسوله للتدليل على صحة مزاعمه، وقد صرَّح بذلك وهو يعرف بأن الله ورسوله لن يحضرا لتقديم شهادتهما بشأن تعريفه حركة حماس.
وتتجاهل المنظمات والنخب يوم أن شبَّه خالد مشعل نفسه بالرسول عام 2007 بعد نجاح حماس باختطاف قطاع غزّة أرضا وشعبا وسلطة، فحين زار السيد مشعل غزّة سجد على الأرض شاكرا الله لأن حماس انتصرت في غزّة كما انتصر الرسول على كفّار مكّة، فعل ما فعل الرسول عند فتحها ، فأيُّ كفّار هؤلاء الذين تم تحرير غزّة منهم يوم اختطافها! وأسقط هؤلاء من ذاكرتهم إنزال حركة حماس العلم الفلسطيني عن مبنى المجلس التشريعي ورفعت بدلا منه أعلام الإخوان المسلمين وما يخصُّ حماس!!
ولم تتوقف لا المنظمات ولا النخب الثقافية عند شهادة المدعو حذيفة هجايص عضو المكتب الاستشاري (مجلس الشورى) يوم كتب "أن حركة حماس وُجدَت في قطاع غزة بتكليف مباشر من الله عزّ وجل"!؟
ما علينا: لنعد للأسئلة المحظور البوح بها والمتعلقة بيوم العبور السابع من تشرين أول/ أكتوبر 2023 وتداعياته.
هل استطاعت تحليلات الخبراء وجنرالات الكلام على الفضائيات أن تساعد شعبنا على معرفة المهام المَّنوطة بهم كضحايا؟
وهل ساعدت تحليلاتهم على فهم ما جرى والذي سيقرر مصيرهم الراهن والمستقبلي؟ فليس مهما أن ترفع الراية، الأهم إلى أين تتجه بالراية، نحو المستنقع أم نحو الحرية؟ ليس المهم أن تطلق النار على العدو! الأهم هو ما المغزى السياسي من إطلاق النار وأي صدام عسكري مع العدو
ماذا أفاد المعرفة تركيز المنظمات والنخب ومنابر الإعلام على توصيف ما هو ظاهر ورآه الشعب، بشأن المباغتة، التخطيط، المستوى العالي من التدريب، شجاعة المقاتلين، نجاحهم بأسلحة يدوية في استحضار رهائن نساء، شابات ومن كبار السن، وأطفال (وهو فعل جرمي في القانون الدولي) وبعض العساكر، والسيطرة في ساعات محدودة على (660) كيلو متر مربع من أراض ما أسموه غلاف غزّة، أي ضعف مساحة قطاع غزة ثم الانسحاب والعودة للاحتماء في الانفاق.
قالت المنظمات الفلسطينية والنخب الثقافية المتخندقة في جوقة ضابط الإيقاع أن ما جرى هَدِفَ لتحرير فلسطين. وهم في الواقع اسقطوا خيالاتهم على الحدث. كان الهدف يقتصر على مطالب غير سياسية، مطالب إجرائية كالتوقف عن اقتحام الأقصى وتبييض السجون وليس تحرير فلسطين (للتحقق طالعوا وثيقة حماس "هذه روايتنا"). فلو كان الهدف هو تحرير القدس أو فلسطين، لماذا لم تدفع كتائب القسام بخمسة أو عشرة آلاف مقاتل خلف من نجحوا في العبور (1500) مقاتل، لتوسعة المناطق المحررة لتصل إلى (2000) كيلو متر مربع مثلا؟ علما بأن لدى كتائب القسام أكثر من (40) ألف مقاتل غير قوات الاحتياط حسب التصريحات الرسمية.
ماذا أفاد المعرفة تجاهل الأسئلة حول الرواية الإسرائيلية، الرواية التي أعدَّت بذكاء، وصيغت بعناية فائقة لخداعنا وخداع العرب والنظام الدولي! الرواية الخدعة بأن ما جرى يوم العبور "كان فشلا إستخباراتيا كاملا لإسرائيل"!. هذه الكذبة والخدعة المتقنة، انشغلت بها المنظمات السياسية والنخب الثقافية وجنرالات الكلام على الفضائيات!. مع العلم أن إسرائيل اخترقت حركة حماس بعملاء خطرين ليسو بالقلة وبعضهم وصل إلى مرتبة قيادات الصف الأول في كتائب القسام وبعضهم صار من مساعدي محمد الضيف نفسه، وبشكل فردي وجماعي هربوا تباعا لإسرائيل، كانوا قد زودوا إسرائيل كل ما يلزمها من معلومات عن الأنفاق وعن يوم العبور. وآخرهم مثالا من غادرا النصيرات يوم 8/6/2024 برفقة قوات الاحتلال مع الرهائن الأربعة.
وللأسف، لم يبادروا في المنظمات الفلسطينية والنخب الثقافية للتفكير وفحص الخدعة الكذبة التي انطلت على الملايين، خدعة "الفشل ألاستخباراتي المهول لإسرائيل" في يوم العبور لمستوطنات غلاف غزة!!.
كيف يكون مقبولا ما قيل عن "فشل استخباراتي" كبير، وعملاء إسرائيل من اخترقوا الصف القيادي الأول لكتائب القسام كما أشرنا قد زودوها بكل صغيرة وكبيرة تتعلق بيوم وخطة العبور؟!! هذا عدا عن التقارير الإستخباراتية التي رفعتها الأجهزة ذات العلاقة بهياكل ومكونات الجيش والشرطة والشاباك والموساد، بالإضافة إلى المعلومات المرفوعة من مواقع الحراسة على أبراج المراقبة؟
لقد انطلت خدعة "الفشل ألاستخباراتي" على شعوبنا التي لا تستخدم العقل ولا مهارة التفكير، لان قاعدة التعليم عندنا ولدى العرب عموما لا تنتج من يفكر أو مفكرين، مثالا كل عام يتقدم للتوجيهية عشرات الألوف من الطلاب لاختبار قدرتهم على الحفظ وليس على الفهم والتفكير، أي تُخرِّجْ مدارسنا "سيديهات" تمشي على قدمين. والحال في البلدان العربية مماثل تماما لحالنا. والمنظمات الفلسطينية والنخب الثقافية "طينة من هالمطينة"، تعليم لا ينتج من يفكر أو مفكرين.
لا يحتاج الأمر لخبراء لمعرفة أن أي جهة أمنية إسرائيلية في الجيش أو الشرطة وقوى الأمن الأخرى حين يكون عليها أن تتصرف تجاه خطر ما، فهي بحاجة لقرارات من الهيئة السياسية العليا. فهل تساءل احد من المنظمات الفلسطينية والنخب الثقافية: لماذا أهمل نتنياهو وفريقه القيادي جميع ما تراكم من معلومات استخبارية بشأن يوم العبور؟! لماذا سمحوا في القيادة الإسرائيلية بالذي حدث أن يحدث وهم على علم بكل الذي سيحدث؟!!
ألا يعود ذلك لأن مخططاتهم بتنفيذ عمليات ترحيل وجرائم إبادة مرعبة وفظيعة، لهذا انتظروا واستقبلوا كل التقارير الإستخباراتية "بأذن من طين وأذن من عجين" فهم بحاجة لسبب كامل يجمع الأسباب الأساسية وغير الأساسية، مباشرة وغير مباشرة، الأسباب المحددة للأحداث، الذاتية كاكتمال تهيئة المجتمع الإسرائيلي لما هو مرعب، و الخارجية المرتبطة بتوازن القوى والوضع الدولي، وتوفر الظروف المواتية، ولأحداث بتأثيرها وتداعياتها يمكن لإسرائيل التذرع بها للإقدام على ما هو مهول جرائم التطهير والإبادة المحضرة سلفا وتحتاج للتنفيذ..
منذ سنوات طويلة والعُقَّال القلّة من شعبنا مثالا الكاتب والباحث عبد المجيد حمدان فيما كتب، وفي لقاءاته مع المسئولين في مختلف المنظمات وفي الندوات التي قدمها أو شارك فيها وخلال عشرات اللقاءات مع نخب ثقافية وسياسية عديدة كم حذر الجميع من بلوغ إسرائيل واقترابها من تنفيذ مخططات جرائم الترحيل وجهوزيتها لتنفيذ جرائم الإبادة، وكم مرة دعا لليقظة والحذر والامتناع عن القيام بأخطاء كبيرة ولعدم توفير الذرائع كي لا تستخدمها إسرائيل في التعجيل بتنفيذ ما يجرى تنفيذه بقطاع غزّة.
وشخصيا في تموز وأب من العام الماضي قبل يوم العبور بأشهر توجهت للمسئولين في حماس والجهاد محذرا إياهم من مخططات إسرائيل بالترحيل والإبادة، وطالبتهم أن ارفعوا ايديكم عن شبابنا في مخيم جنين وشمال الضفة الغربية وكان توقعي أن تُنَفَّذ الإبادة والترحيل في الضفة الغربية وفي شمال الضفة الغربية تحديدا وليس في غزّة.
ماذا أفاد التركيز على النجاعة المبالغ فيها في استخدام الأنفاق وكأنه عمل أسطوري لا مثيل له في تاريخ تطور أساليب الدفاع العسكرية للجيوش، كتجارب الجيوش في استخدام القلاع، ثم الحصون، فالأسوار، وصولا لاستخدام الأنفاق. فالجيوش المهاجمة للقلاع على مر التاريخ كانت تفشل في اقتحامها، الحشاشين في قلعة ألاميت مثالا، وفشل تلك الجيوش لم يعتبر هزيمة لها، والمدافعون لم يكن نجاحهم في الدفاع عن قلاعهم انتصارا. وحتى باستخدام الأسوار فيما بعد، مثالا فشل نابليون باجتياح أسوار عكا بعد شهرين من حصارها، فرمى قبعته نحو السور، ولم يعتبر ذلك هزيمة لجيشه، ومن دافعوا عن مدينتهم عكا نجحوا في الدفاع ولم يعتبر ذلك انتصارا على جيش نابليون، وهكذا الحال بالنسبة لتجربة الانفاق، وظيفتها تمكين المدافعين على النجاح في إفشال المهاجمين ولن يكون نجاحهم في الدفاع انتصارا، ولا فشل المحتلين المهاجمين هزيمة لهم.
هل هو مصادفة الاهتمام بما هو ظاهري وتضخيمه ليرقى لمستوى الأساطير؟ مع أن المنظمات والنخب الثقافية يعرفان أن ما اهتموا به ليس إلا جزءًا من المشهد الكلي للأحداث، فهناك جوانب أخرى في لوحة يوم العبور. فماذا عن صواب القرار بالعبور، هل تناسب القرار بالعبور مع الهدف المعلن؟! وماذا عن المعرفة بموازين القوى، والمعرفة بالعدو وردود فعله المحتملة ولماذا وكيف لم تأخذ الإجابات على هذه الأسئلة بالاعتبار؟ كيف لم يعرف صانع القرار بالتحضيرات الإسرائيلية لتنفيذ عمليات التطهير والتخطيط لتنفيذ جرائم الإبادة منذ أكثر من عشرين عاما.
ولو قبلنا صحة ما تم الاهتمام به عن البطولات الأسطورية، والانتصارات الإلهية، فكيف تمكنت دولة إسرائيل "الكيان" بحسب توصيفات البعض، بأنها "أوهن من بيت العنكبوت" مِنْ جعل قطاع غزة بمساحته (360) كيلو مترا مربعا مكانا غير صالح للحياة؟
لماذا تغيب الأسئلة بشأن إهمال قيادة حماس لحادث استشهاد أو غياب محمد الضيف منذ 13/7/2024 في مواصي خان يونس قائد كتائب القسام، هل هو الخوف من دولة قطر التي اعتبرت ما جرى تمردا على رعايتها للتفاهمات الإستراتيجية بين إسرائيل وحماس؟ أم القلوب مليانة تجاهه باعتباره مسئول مع السنوار عما جرى!!
في الأيام الأولى لعبور الأسلاك، كتبت أن ما حدث كان انقلابا على القيادة السياسية واحتجاجا على ما تضمنته التفاهمات بين قيادة حماس السياسية وإسرائيل برعاية دولة قطر، ومضمونها أن تقيم حركة حماس في قطاع غزة كانتون، دولة، إمارة، خلافة، أو أي نظام سياسي تريده مقابل تحويل كتائب القسام إلى شرطة مدنية، الأمر الذي أغضب محمد الضيف والصف القيادي لكتائب القسام، فتحالف الضيف مع السنوار الغاضب على القيادة السياسية منذ فشله في الانتخابات الداخلية أمام نزار عوض الله وفرض نفسه بالقوة كقائد لقطاع غزة، فاتفقا الضيف والسنوار على تنفيذ خطة العبور المعدة منذ فترة غير قصيرة وكان أن أجري التدريب عليها كمناورات بمعرفة إسرائيل بتفاصيلها ومصوَّرة لديها بشكل كامل!
الم يحن دور العُقَّالِ في ممارسة حقهم في الكلام في إطار حرية التعبير ونعمة التعددية والتنوع الذي يميز شعبنا؟ فشعبنا بحاجة راهنا لفتح الأبواب والنوافذ أمام المخلصين من المفكرين وأصحاب الرأي للمساهمة في اجتراح ما هو أنجع في مواجهة مؤامرات المسيحية الصهيونية العالمية على قضيتنا الوطنية. وفي المقدمة مهمة البقاء في وطننا الذي ليس لنا سواه.
وفي الختام مهم الإشارة إلى ما يلي:
إن أي عمل ثوري أو مقاوم ينبغي مرافقته بالتفكير النقدي، حتى لو كانت الملاحظات والآراء شديدة القسوة، ذلك هو الطريق الصواب لاستدامة السير بكفاحنا الوطني إلى الأمام، ولتصويب أي انحراف عن البوصلة. ومزاعم جوقة ضابط الإيقاع بأن النقد ليس وقته أو معيب أو يلتقي مع الرواية الإسرائيلية، أو القول بان المراجعة والنقد لا يجوزان فيما العدو يقف وراء الباب، كل ذلك علاك بالسوري ورابش بالفلسطيني، دفوع لا علاقة لها بالسياسة، وقد يكون أحد أفراد البيت هو من استقدم العدو ليقف وراء الباب.
أية أخطاء مهما عظمت سواء نفذتها حركة حماس أو فتح أو غيرهما من المنظمات الفلسطينية في المواجهة مع المحتلين، قانونا وبحسب مبادئ الشرعة الدولية، وبحسب قوانين الشرعية الدولية لا تبرر بالمطلق وليست سببا كافيا للمحتلين على الإطلاق لتنفيذ جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الأكثر بشاعة في التاريخ بحق شعبنا في قطاع غزة. فبلاها محاولات ثني ذراع التفكير النقدي واتهامه بالتماثل مع مصالح العدو، كفوا عن هذا الهراء!! المجتمع الدولي بملايينه في الساحات يدين ما جرى يوم العبور ويدين نهج حماس، لكنه ثار وانتفض يطالب بوقف إطلاق النار وبالحرية لفلسطين لقناعته بأن أخطاء حركة حماس ليست إلا ذريعة واهية ولا يوجد أي سبب في الكون يبرر ما نفذته ماكينة القتل الجيش الإسرائيلي بإبادة الشعب الفلسطيني.
إن الموقف النقدي من قيادات حركة حماس ومواقفها وقراراتها السياسية لا ينتقص بالمطلق من حقيقة الشجاعة والبطولة والعزيمة والأداء القتالي المهني الذي أبداه المقاتلون من كتائب القسام في المواجهة مع المحتلين، أنهم يؤدون دورهم كمقاتلين أبطال وجنود مخلصين كحال المخلصين في أي جيش في العالم.