الثلاثاء: 12/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

النزوح السادس

نشر بتاريخ: 27/08/2024 ( آخر تحديث: 27/08/2024 الساعة: 11:33 )

الكاتب: د.سعيد زيداني

نزحت "والحزن بعينيها" من شقتها في الطابق الرابع في بناية سكنية في مركز مدينة خان يونس إلى مواصي رفح، برفقة أولادها الثلاثة، بنت في الثامنة عشرة من عمرها وولدين في السادسة عشرة والثانية عشرة من العمر تباعًا. كان ذلك في الأسبوع الأول من شهر كانون الأول/ ديسمبر الماضي. ولم يمهلها أمر الإخلاء في حينه سوى ساعات قليلة تمكنت خلالها من تعبئة أربع حقائب بما لزم وتيسر من والوثائق والملابس والاحذية والأواني والغذاء والدواء. ولكن حظها لم يكن الأسوء من بين حظوظ جماهير النازحين، إذ احتضنتها وأولادها الثلاثة إحدى العائلات الصديقة لمدة شهور كثيرة، وتحديدًا إلى أن تم اجتياح محافظة رفح في ربيع هذا العام. ومن غرب رفح نزحت الى حي "الجنينة" شرقها، ومنه بعد أسابيع قليلة إلى حي "ميراج" شرق محافظة خان يونس، ومنه الى بيت نصف مهدوم في بلدة "بني سهيلة" في نفس الجهة من نفس المحافظة. ومع بدء العملية العسكرية الثانية شرق خان يونس في شهر تموز/ يوليو عادت لتسكن نفس البناية التي نزحت منها في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، في شقة متضررة جزئيًا، غير شقتها المهدومة بشكل شبه كلي. وبعد ما يقل عن أسبوعين، اضطرت إلى النزوح إلى مواصي خان يونس لمدة أسبوع كامل. ومع بدء العملية العسكرية الثالثة شرق ووسط خان يونس في الثامن من شهر آب/ أوغسطس الحالي، وصلها، كما وصل عشرات الآلاف مثلها، أمر الإخلاء الفوري إلى غرب المدينة المنكوبة، حيث يقيم هناك في الخيام كل من والديها المطلقين وإخوانها الثلاثة وعمتها الأرملة. ولكنها رفضت الاستجابة لأمر الإخلاء هذه المرة بسبب فرط الإنهاك، عارفة بحجم المخاطرة، طامعة بحماية الله (كما قالت).

امراة من خان يونس، في منتصف الأربعينات من العمر، منطلقة بعد طلاقها؛ امرأة عاملة ومتعلمة ومسؤولة عن إعالة وأمن ورفاه أولادها الثلاثة، في ظروف حرب إبادة ضد الإنسان والبنيان والمكان في قطاع غزة دخلت شهرها الحادي عشر. منذ الشهر الأول للحرب توقفت عن العمل وانقطع الراتب. ومثل الراتب انقطع التيار الكهربائي الذي يغذي أجهزة التسخين والتبريد والإنارة وشحن بطاريات الهواتف النقالة. فتعلمت طرق الغسيل والعجين والخبيز البدائية. وعانت الكثير وأولادها الثلاثة من العزلة ومن العتمة ومن برد الشتاء أولآ وحر الصيف لاحقًا. كما عانت من المشاوير المضنية لغرض شحن بطاريات الهواتف النقالة من محطات شحن تعمل بالطاقة الشمسية تم استحداثها. "و"تنازلت" بالطبع عن طموحها في الدراسة لشهادة الماجستير في مجال بناء المؤسسات، تمامًا كما "تنازلت" بنتها عن الالتحاق بأحد المعاهد لدراسة التصميم الجرافيكي، وتمامًا مثلما "تنازل" ولداها، مثل ما يزيد عن ستمائة ألف تلميذ وتلميذة، عن التعليم للسنة الدراسية ٢٠٢٣/٢٠٢٤ بكاملها. وأخذت مواردها المالية تجف شيئًا فشيئا. وأخذت طاقاتها الجسدية والنفسية تتآكل بعد كل نزوح وأخر.

امرأة في منتصف الأربعينات من العمر، برفقة أولادها الثلاثة والحقائب الأربع والفراش، تلاحقها أوامر الإخلاء، فتنزح من منطقة إلى أخرى في كل من محافظتي رفح وخان يونس. وفي كل محطة تعاني من النقص في الغذاء والماء والدواء. فرحت يومًا وفرح أولادها حين عثرت على أجنحة من الدجاج لطبخة "مقلوبة" مشتهاة. فاللحوم صارت نادرة، وأسعارها صارت خيالية. وخيالية صارت أسعار مواد التنظيف والصابون والشامبو. فقد كلفتها قطعة الصابون وعلبة الشامبو النادرتين ما يعادل ال٣٥ دولار أمريكي، وكانت مضطرة للشراء بعد أن صار شعر رأسها وشعر رأس بنتها مثل أسلاك ليفة الألومنيوم (كما قالت). وقد حزنت كثيرًا حين التهبت عيون ولديها ولم تجد الدواء اللازم فاقتصر العلاج، حسب تعليمات طبيب عيون صديق، على كمادات الماء الساخن. وحين هاجمهم الذباب الأزرق، والذي يعتاش على القمامة والمياه الآسنة، في مواصي خان يونس، وجدوا المرهم الشافي في بسطة للأدوية، بعد أن تعطلت الصيدليات عن العمل بسبب القصف ونقص الدواء. أمًا عن الشكوى من النقص في الملابس، خاصةً الداخلية منها، وغيابها عن الأسواق، فالحديث يطول.

امرأة في منتصف الأربعينات من العمر، عفيفة ومحتشمة، تنزح بحثًا عن المأوى الأمن من منطقة إلى أخرى في كل من محافظتي رفح وخان يونس، برفقة أولادها الثلاثة وحقائبها الأربع والفراش. رفضت أن تعيش وأولادها في الخيام، كما يعيش كل من والديها المطلقين وعمتها الأرملة وإخوتها الثلاثة وعشرات الآلاف الكثيرة من النازحين. فلا خصوصية، تعودتها، في الخيام، ولا عفة، لا تفرط بها، في الخيام. ففي زحام هذه الخيام انتشرت الأوبئة وتراجعت كل من الخصوصية والقيم الأخلاقية. في الخيام المتلاصقة في المواصي وفي دير البلح يكثر الحديث، كما قالت، عن التحرشات والاعتداءات الجنسية، كما يكثر الحديث عن آلاف حالات الزواج بدافع "السترة". أمًا خارج الخيام، فقد انتشرت ظاهرة اللصوص الذين ينهبون المنازل التي أخلاها النازحون. حتى المشافي التي تم إخلاؤها لم تسلم من هذا النهب، كما عرفنا وعرفت. كما لم تسلم تلك المرأة العفيفة والمحتشمة خلال رحلات النزوح المتتالية من إيحاءات جنسية وصلت إلى حد التحرش أحيانًا. لهذا كله أصرت على تجنب حياة الخيام وإن كلفها ذلك ما سبق ووفرته من أموال قبل الحرب، أموال صارت شحيحة بسبب حرب ثأرية، مدمرة ودموية، دخلت شهرها الحادي عشر.

امراة في منتصف الأربعينات من العمر، عصرية وعصامية، من سكان مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة. كانت تعمل قبل الحرب لدى احدى المؤسسات الدولية التي تعنى برصد وتوثيق وتقييم الأضرار والخسائر الناجمة عن العملية العسكرية الإسرائيلية التي حملت اسم "حارس الأسوار" في شهر أيار/ مايو ٢٠٢١، وكذلك تلك الأضرار والخسائر التي نجمت عن اعتداءات السنوات السابقة. تعرفت عليها، وتعرفت علي، قبل تلك العملية بحوال العام، حين كان فيروس كورونا يلقي بظلاله الثقيلة على العباد في فلسطين والعالم الواسع. وكانت قنوات التواصل المتاحة طريق تعرف الواحد منا على الآخر: شكله ومكان سكنه وعمله ومستوى تعليمه ووضعه العائلي، طموحاته ومتاعبه، مستوى مناعته الذاتية وقدرته على الرد على التحدي. واستمر التواصل الدوري بيننا بعد ذلك. ومنذ بداية الحرب الوحشية، والمدمرة للإنسان والمكان والبنيان في قطاع غزة، صار التواصل بيننا مكثفًا، باستثناء تلك الأيام والأسابيع التي عطل فيها القصف عمل وسائل الاتصال. ورافقتها وأولادها الثلاثة من محطة نزوح إلى أخرى، بعد إخلاء شقتها في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، تلك الشقة المستاجرة التي قصفت ودمرت في اليوم التالي للنزوح الأول.

امرأة غزية من خان يونس، في منتصف الاربعينات من العمر، عصرية وعصامية، والدة لبنت وولدين، تنزح المرة تلو الأخرى من مكان إلى آخر في كل من رفح وخان يونس، سعيًا وراء المأوى الأمن خارج خيام مئات آلاف النازحين. امرأة غزية مقدامة ترفع لها القبعات على ما تحملت من الأعباء والمشاق وتدبرت من الامور، في ظروف حرب كان المدنيون والأعيان المدنية وقودها الأساس. لقد كان لي شرف التواصل الدائم معها، جبر خاطرها ودعمها. حماها الله وحمى أولادها الثلاثة وجميع أهلنا في قطاع غزة وأبعد من القادم من ويلات حرب إبادية دخلت الأسبوع الثاني من شهرها الحادي عشر.