الكاتب: وائل زبون محاضر في جامعة فلسطين الاهلية
المقدمة: في ضوء التطورات الحديثة في الدراسات الكولونيالية وما بعد الكولونيالية، تُعتبر العلاقة بين المستعمر والمستعمَر إحدى الظواهر المعقدة التي تميز الصراعات العالمية. وفي هذا السياق، يُمكن تحليل السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين من منظور كولونيالي يُسلط الضوء على الاستخدام المفرط للقوة والتلاعب بالمصطلحات كأدوات للسيطرة والهيمنة. وفي هذه العجالة سنناقش مع بعض التفسير الأكاديمي الذي يستند إلى نظريات ما بعد الكولونيالية لفهم تأثير هذه السياسات على العلاقات الدولية، وعلى صياغة الهوية والمقاومة الفلسطينية، كما سنناقش كيف يمكن للمستعمر أن يستخدم استراتيجية المفاوضات دون نتائج لتحقيق الهيمنة دون تقديم تنازلات.
الإفراط في استخدام القوة: أداة للهيمنة الكولونيالية يُعتبر الإفراط في استخدام القوة من قبل إسرائيل انعكاسًا واضحًا لسياسات كولونيالية تسعى إلى فرض السيطرة على الشعب الفلسطيني. فمن منظور ما بعد الكولونيالية، يُمكن اعتبار هذه السياسات استمرارًا للاستعمار بأدوات جديدة، حيث تستخدم إسرائيل القوة العسكرية بشكل غير متناسب بهدف تحقيق أهدافها التوسعية وفرض الهيمنة. وهذا ما وصفه فرانز فانون في كتابه "معذبو الأرض" بـ "العنف الاستعماري"، الذي يهدف إلى كسر روح المقاومة وإخضاع المستعمَرين.
التلاعب بالمصطلحات: إعادة إنتاج اللغة الكولونيالية إلى جانب القوة العسكرية، تستغل إسرائيل قوتها الإعلامية والدبلوماسية لإعادة تشكيل المصطلحات المتعلقة بالحالة الفلسطينية. من منظور ما بعد الكولونيالية، وهذا التلاعب بالمصطلحات يعتبر جزءًا من "اللغة الكولونيالية" التي تسعى إلى إعادة إنتاج العلاقات الاستعمارية من خلال السيطرة على السرديات والخطاب السياسي الفلسطيني لحرفه عن مضمونه، وقد ناقش هذا المضمون المفكر الفلسطيني الدكتور إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق"، حيث اكد في كتابه أن القوى الكولونيالية تُعيد إنتاج الصور النمطية والخطابات المهيمنة لشرعنة سلطتها على المستعمَرين.
اللغة الاحتلالية الكولونيالية وتأثيرها على الهوية: تعتمد إسرائيل على ما يُمكن تسميته بـ"اللغة الاحتلالية الكولونيالية"، حيث تُستخدم المصطلحات بطريقة تعزز السيطرة الكولونيالية وتهمش الهوية الفلسطينية. وهذا التلاعب اللغوي يُعتبر جزءًا من مشروع استعماري يسعى إلى تحويل الفلسطيني من كونه ضحية احتلال إلى "إرهابي" في الخطاب الدولي. ويتماشى هذا النهج مع ما ذكرته غاياتري سبيفاك في كتابها الشهير "هل يستطسع التابع ان يتحدث" بمعنى ومفهوم "هل يمكن للمضطهدين أن يتحدثوا؟"، حيث تُشير إلى أن الأصوات المستعمَرة تُقمع وتُشوه من خلال الخطاب الاستعماري المهيمن. الذي يحاول جاهدا التحدث نيابة عنهم.
استراتيجية المفاوضات اللانهائية: الاحتلال بالتفاوض في سياق العلاقات الاستعمارية، قد يلجأ المستعمر إلى استراتيجية المفاوضات التي لا تسفر عن نتائج ملموسة كمحاولة لشراء الوقت وتعزيز السيطرة دون تقديم أي تنازلات حقيقية. هذه الاستراتيجية تتجلى بوضوح في التفاوض ما بين الإسرائيلي والفلسطيني، حيث تستمر إسرائيل في الدخول في مفاوضات لسنوات طويلة دون الوصول إلى اي حل وعند اسرائيل يمكن التفاوض على ادق التفاصيل وهذه استراتيجية لتمييع وتسويف المفاوضات. يمكن تفسير هذا النهج من خلال نظرية "القوة التفاوضية" التي يستخدمها المستعمر كأداة للحفاظ على الوضع الراهن، حيث يسمح باستمرار المفاوضات كواجهة دبلوماسية اعلامية كواجهة للعلاقات العامة فقط، بينما يواصل تنفيذ سياساته الاستعمارية على الأرض.
يُمكن أن نفهم هذا السلوك من خلال "نظريات اللعبة" في المفاوضات الدولية، حيث يُعتبر الوقت أداة رئيسية بيد المستعمر. بينما ينتظر الفلسطينيون التوصل إلى حل، تستمر إسرائيل في تعزيز موقفها التفاوضي من خلال توسيع المستوطنات، وتغيير الواقع على الأرض، وتحقيق مكاسب ديموغرافية وسياسية. هذا الوضع يتماشى مع مفهوم "الانتظار الاستراتيجي" حيث يتم استخدام الوقت لتغيير المعطيات دون الحاجة إلى تقديم تنازلات، والتفاوض لاحقا في جلسات التفاوض القادمة حول ما تم فرضه على ارض الواقع وهكذا دواليك.
ما بعد الكولونيالية والمقاومة الفلسطينية: إعادة تصويب المصطلحات واستراتيجية المفاوضات من منظور ما بعد الكولونيالية، يتطلب التصدي لهذه السياسات الكولونيالية تطوير استراتيجية مقاومة تستند إلى إعادة صياغة المصطلحات وتقديم سردية بديلة. وبهذا تحتاج المقاومة الفلسطينية إلى استعادة لغتها ومفاهيمها بما يعكس الواقع الاستعماري ويُعزز من هويتها الذاتية. إضافة إلى ذلك، ينبغي على الفلسطينيين تبني نهج أكثر حذرًا في التعامل مع المفاوضات، حيث يجب التركيز على تحقيق نتائج ملموسة وضمان عدم استخدام هذه المفاوضات كأداة لتمديد الاحتلال.
التداعيات على العلاقات الدولية: إن الإفراط في استخدام القوة، مقترنًا بالتلاعب بالمصطلحات، يُعيد إنتاج علاقات القوة الكولونيالية في السياق الدولي، مما يُعقّد جهود السلام ويُعمّق التوترات. وهذا ما حذر منه والتر مينيولو في العديد من دراساته مؤكدا أن هذا النمط من الهيمنة الاستعمارية يُعيد إنتاج نفس العلاقات الاستعمارية تحت غطاء جديد. وهنا في الحالة الفلسطينية على المجتمع الدولي أن يتجاوز هذا النمط من التفكير وأن يتبنى مقاربة ما بعد كولونيالية تعترف بحقوق الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال وهذا لا يتاتى الا باصرار الشعب الواقع تحت الاحتلال على المقاومة.
الخاتمة: إن سياسات الإفراط في استخدام القوة والتلاعب بالمصطلحات واستراتيجية المفاوضات اللانهائية من قبل إسرائيل تُشكل جزءًا من استراتيجية كولونيالية تهدف إلى فرض الهيمنة والسيطرة على الفلسطينيين. من منظور ما بعد الكولونيالية، يُمكن اعتبار هذه السياسات استمرارًا للاستعمار بأدوات حديثة، مما يستدعي تطوير استراتيجيات مقاومة تستند إلى إعادة تصويب المصطلحات واستعادة الهوية الفلسطينية، والضغط لتحقيق نتائج ملموسة في أي مفاوضات قادمة. إن معالجة هذه القضايا تتطلب من المجتمع الدولي تبني مقاربة ما بعد كولونيالية تُركز على تحقيق العدالة واستعادة حقوق الشعب المحتل، والاعتراف بحق الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال بطرق فعّالة تؤدي إلى تحرر حقيقي.