الأحد: 15/09/2024 بتوقيت القدس الشريف

فكرتان، لا واحدة

نشر بتاريخ: 03/09/2024 ( آخر تحديث: 03/09/2024 الساعة: 10:05 )

الكاتب: د.سعيد زيداني

فكرتان، لا واحدة، تفسران مواقف وتصرفات حكومة إسرائيل اليمينية المتطرفة برئاسة نتنياهو فيما يتعلق بالقضيتين المترابطتين: صفقة تبادل الرهائن/ الأسرى ووقف إطلاق النار والانسحاب من قطاع غزة. هاتان الفكرتان هما: الحيلولة دون قيام دولة فلسطينية مستقلة أولآ، وترميم الجدار الحديدي ثانيًا. أمًا فكرة الجدار الحديدي فمفادها التالي: امتلاك وتفعيل تلك القوة العسكرية القادرة على ردع وهزيمة الأعداء المتربصين، فرادى كانوا أو جماعات، وذلك قبل التوصل إلى أي اتفاقيات أو تفاهمات معهم. وهي فكرة صاغها وروجها زئيف جابوتنسكي في عشرينيات القرن الماضي، أي قبل قيام دولة إسرائيل اليهودية، وحين كان مشروع الدولة اليهودية لا يستثني الضفة الشرقية من نهر الأردن. هاتان الفكرتان تفسران تماسك الائتلاف الحكومي الحالي الذي يرأسه نتنياهو من جهة، وإصرار حكومة إسرائيل اليمينية على مواصلة الحرب التدميرية على قطاع غزة حتى هزيمة المقاومة من جهة ثانية، والإعداد لعملية أو ضربات عسكرية من شأنها ردع حزب الله اللبناني من جهة ثالثة. وإذا كان الأمر كذلك، فليس صحيحًا ما يقوله ويردده المحللون السياسيون العرب وغيرهم، والذين يفسرون تصلب نتنياهو في المفاوضات حول صفقة الرهائن/ الأسرى، وما يقابلها من وقف الحرب والانسحاب من قطاع غزة، بدوافع ذات علاقة بمستقبله الشخصي/السياسي ومستقبل الائتلاف الحكومي الذي يرأسه ليس أكثر.

وليس من باب الصدفة أن تحمل العملية العسكرية الإسرائيلية التي انطلقت يوم الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ردًا على عملية "طوفان الأقصى" في اليوم السابق، تسمية "السيوف الحديدية"، وهي تسمية تستحضر إلى الأذهان مباشرةً فكرة أو مبدأ "الجدار الحديدي". لقد زعزعت عملية طوفان الأقصى، المباغتة والمكلفة ماديًا ومعنويًا وبشريًا، ذلك الجدار الحديدي الذي فاخرت به حكومات إسرائيل المتعاقبة عبر السنين. فكان ضروريًا وعاجلًا إعادة ترميم قوة الردع المتداعية. وهذا يفسر، وأكثر من أي شي آخر، ذلك الانقضاض الثأري والهمجي على الإنسان والمكان والبنيان في قطاع غزة، ذلك الانقضاض الذي ما زال على أشده بعد مضي أحد عشر شهرًا؛ ذلك الانقضاض الذي لا يقف، كما نعرف، عند حدود قطاع غزة، بل يتعداها ليطال الضفة الغربية وما يسمى "بمحور المقاومة" أيضًا. هذا مع العلم بأن مبدأ الجدار الحديدي المحدث أو المعدل يتطلب توطيد أواصر التحالف مع الولايات المتحدة الأميركية، القوة العسكرية والاقتصادية الأعظم في العصر الحديث. فبدون مثل هذا التحالف تفقد فكرة الجدار الحديدي كثيرأ من معناها وجدواها.

وتخاصر فكرة أو مبدأ الجدار الحديدي المذكور فكرة أو مبدأ الحيلولة دون قيام دولة فلسطينية مستقلة غرب نهر الأردن في تفسير تماسك الائتلاف الحكومي الذي يرأسه نتنياهو منذ بداية العام الماضي، ذلك الائتلاف اليميني الأكثر تطرفًا منذ قيام ألدولة العبرية. نتنياهو يفاخر ويجاهر بموقفه المعادي لقيام دولة فلسطينية مستقلة قبل وبعد الحرب على غزة، وشركاؤه في الإىتلاف الحكومي الحالي، خاصةً حزبا الصهيونىة الدينية، يغذون هذا الموقف ويعبرون عن ذلك بالأقوال والأفعال. والممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، يشمل مدينة القدس الشرقية، خير دليل على ذلك. في ظل هذه الحكومة اليمينية، وخاصة منذ اندلاع الحرب الوحشية على قطاع غزة، ازدادت الاقتحامات للمدن والقرى والمخيمات، خاصة في محافظات شمال الضفة الغربية (والتي أدت إلى ارتقاء ما لا يقل عن ٦٦٠ فلسطيني وجرح الآلاف منهم)، كما ازدادت مصادرة الأراضي لغرض تكثيف الاستيطان. وعادت الحواجز العسكرية الفاصلة بين المدن الفلسطينية، وبين كل مدينة ومحيطها من القرن والمخيمات، إلى ما كان عليه الحال أيام انتفاضة القدس والأقصى قبل عقدين من الزمن. وعن الاعتقالات (التي طالت ما يزيد عن عشرة آلاف فلسطيني) وهدم المنازل وعنف المستوطنين والضغوط الاقتصادية، فالحديث بلا حرج. كما ولم يسلم الحرم القدسي الشريف من هذه الاعتداءات. ويلوح وزير الأمن القومي الإسرائيلي، وبغطرسته المعهودة، ببناء كنيس يهودي هنآك. وباختصار، الحرب المدمرة على قطاع غزة والاعتداءات المتصاعدة على الضفة الغربية والقدس الشرقية وتكريس الفصل بين غزة والضفة تهدف بوضوح إلى سد الطريق على قيام دولة فلسطينية مستقلة تحتضن شطري الوطن. وإنهاك السلطة الفلسطينية ماليًا وقدرات حكم يصب في خدمة هذا الهدف المشتهي.

وللإجمال أقول: ترميم الجدار الحديدي الذي تصدع بسبب عملية طوفان الأقصى والحيلولة دون قيام دولة فلسطينية مستقلة تجمع بين شطري الوطن هما المادة اللاصقة بين مكونات الائتلاف الحكومي الذي يقف نتنياهو على رأسه منذ بداية العام الماضي. هذه هي حكومة الحلم بالنسبة له، ولا بديل له عنها، ولا بديل للشركاء عنها، رغم التوترات التي تطغى على السطح أحيانًا. وفي اعتقادي، هذه حكومة عصية عن التفكك نتيجة التوترات الداخلية بين مركباتها. وإذا حدث وتفككت، يكون ذلك نتيجة لأسباب خارجية، بمعنى خارج رغبة أو مصلحة المكونات أو المركبات. غني عن القول في هذا الصدد بأن بقاء هذا الائتلاف الحكومي الحالي يخدم المصالح الأخرى لنتنياهو، وعلى رأسها إفلاته من المساءلة السياسية عن ذلك الفشل الذي أدى إلى عملية طوفان الأقصى، وتعليق القضايا القانونية السابقة للحرب ضده، قضايا ذات علاقة بتهم الفساد والرشوة وخيانة الأمانة.

إذا كان ما ورد أعلاه صحيحًا، وأعتقد أنه كذلك، فلا مهرب من الاستنتاجات التالية:

أولًا: هذه الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة معنية بمواصلة الحرب والقتال في قطاع غزة وفي الضفة الغربية وعلى الحدود الشمالية إلى أن تحقق أهدافها. وهي لا تعطي قضية تحرير الرهائن أولوية على ذلك. وهي معنية كذلك بجر الولايات المتحدة الأميركية، المتمنعة حاليًا، لمواجهة واسعة النطاق مع إيران.

ثانيًا: بصفقة لتحرير الرهائن/ الأسرى أو بدونها، بالانسحاب من محوري فيلادلفيا ونيتسارين أو بدونه، بالانسحاب من قطاع غزة أو بدونه، سوف يستمر حصار قطاع غزة وفصله إداريًا وسياسيًا عن الضفة الغربية. وهذا يعني، من بين أمور أخرى، عدم السماح بعودة السلطة الفلسطينية لحكم القطاع، متجددة تلك السلطة أو غير ذلك.

ثالثًا: هذه الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة عازمة على تكثيف الاستيطان في الضفة الغربية وعلى محاصرة وإنهاك السلطة الوطنية الفلسطينية ماليًا ومن حيث قدراتها على الحكم على حد سواء.

رابعًا: على المستوى الداخلي، نحن بصدد حكومة يمينية متطرفة لا خشية من انفراط العقد بين مركباتها نتيجة توترات أو صراعات داخلية. انفراط العقد يتم، إذا تم، نتيجة ضغط شعبي داخلي أو/ وإملاء خارجي، أمريكي أساسًا.

وختامًا، بدلًا عن تركيز بؤرة الضوء على شخص نتنياهو، أهدافه ودوافعه، ما يقبل وما لا يقبل به خدمة لمصالحه الأخرى (وهذا ما يفعله المحللون السياسيون العرب وغيرهم)، من الأولى والأجدر التركيز على ذلك اللاصق الأيديولوجي الذي يربط بين مركبات هذه الحكومة الاسرائيلية اليمينية المتطرفة والتي تحظى على تأييد شعبي واسع أوصلها للحكم أصلًا، ولا يزال داعمًا لها ولما ترتكبه من الجرائم والفضائع ضد الفلسطينيين داخل غزة وخارجها. وأخيرًا، هذه الحكومة اليمينية المتطرفة ليست عصية، بالطبع، على إحباط مراميها وأهدافها المذكورة، وذلك بفعل الصمود والنضال كما بفعل الملاحقات في المحافل والمحاكم الدولية كما بفعل إسناد أحرار العرب والعالم، وبما لا يستثنى اليهود المناوئين لها، سواء داخل إسرائيل أو خارجها.