الخميس: 19/09/2024 بتوقيت القدس الشريف

اجتياح إسرائيل المتكرر للضفة الغربية من منظور سياسي-اجتماعي: محطة أوسلو، الواقعة بين سندان الاجتياحات المتكررة، وتزاوج الصهيونية الدينية مع الفكر الليكودي

نشر بتاريخ: 04/09/2024 ( آخر تحديث: 04/09/2024 الساعة: 20:49 )

الكاتب: وائل زبون محاضر في جامعة فلسطين الاهلية

مقدمة

تعد الضفة الغربية مسرحًا لصراع طويل الأمد بين الفلسطينيين والإسرائيليين المحتليين، حيث تمثل السيطرة الإسرائيلية على هذه الضفة الغربية قضية مركزية في ذهنية الاحتلال الاسرائيلي. فمنذ احتلالها عام 1967، استغلت إسرائيل نفوذها العسكري والسياسي لفرض وقائع جديدة على الأرض، مما أدى إلى تغييرات جوهرية في البنية الاجتماعية والسياسية للمنطقة. في هذا السياق، يمكن فهم الاجتياحات المتكررة للضفة الغربية كجزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى تعزيز السيطرة الإسرائيلية وتقويض أي محاولات لإقامة دولة فلسطينية مستقلة. فقد تطورت هذه الاستراتيجية عبر مراحل مختلفة، بدءًا من اتفاق أوسلو، مرورًا بعملية السور الواقي، وصولًا الى الاجتياح الاخير، المدعوم بتوظيف الفكر الصهيوني الديني والليكودي في رفض حل الدولتين.

اتفاق أوسلو وتداعياته على الضفة الغربية

اتفاق أوسلو (1993) كان محطة رئيسية في تاريخ الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، حيث قدم لأول مرة إطارًا لحل سياسي عبر التفاوض بين الطرفين. بالنسبة للفلسطينيين، كان أوسلو يمثل فرصة لتحقيق حكم ذاتي محدود مع إمكانية إقامة دولة مستقلة في المستقبل. أما بالنسبة لإسرائيل، فقد رأى بعض السياسيين وتحديدا نيتانياهو في أوسلو وسيلة لإدارة الصراع بدلاً من حله.

وبهذا استغلت إسرائيل بقيادة نتانياهو اتفاق أوسلو لتعزيز سيطرتها على الضفة الغربية، حيث استمر في بناء المستوطنات بشكل متزايد. الامر الذي أدى إلى تقويض إمكانية إقامة دولة فلسطينية متماسكة، حيث تم تقسيم الضفة إلى كانتونات معزولة بالطرق الالتفافية والحواجز العسكرية. وبهذا التقسيم الجغرافي والديموغرافي جعل من الصعب على الفلسطينيين بناء اقتصاد مستدام أو تحقيق سيادة فعلية على أراضيهم.

عملية السور الواقي والاجتياح الأول للضفة

في عام 2002، قامت إسرائيل بشن عملية عسكرية واسعة النطاق في الضفة الغربية، عُرفت باسم "السور الواقي"، كرد فعل على تصاعد الانتفاضة الثانية. مثلت هذ العملية أول اجتياح شامل للضفة الغربية منذ احتلالها عام 1967، وكانت تهدف إلى القضاء على البنية التحتية للمقاومة الفلسطينية، وخاصة في المدن الكبرى مثل جنين ونابلس.

عملية السور الواقي عكست تغيرًا في السياسة الإسرائيلية، حيث أصبحت القوة العسكرية الوسيلة الرئيسية لإدارة الصراع، بدلاً من المفاوضات. وقد ساهم في تعميق هذا التحول صعود الفكر الصهيوني اليميني، الذي يرفض تقديم أي تنازلات للفلسطينيين. اما بالنسبة للفكر الليكودي، فقد كان هذا الاجتياح تأكيدًا على رفض إقامة دولة فلسطينية مستقلة، حيث أكد قادة الحزب مرارًا أن أي تنازل عن الضفة الغربية سيشكل تهديدًا وجوديًا لإسرائيل.

الفكر الصهيوني الديني والليكودي تجاه الضفة الغربية

الصهيونية الدينية تعتبر الضفة الغربية "يهودا والسامرة" جزءًا لا يتجزأ من أرض إسرائيل التاريخية. هذا الاعتقاد العميق يستند إلى مفاهيم دينية ترى أن هذه الأراضي هي ملك للشعب اليهودي بموجب وعد إلهي. ولذلك، فإن أي حديث عن التنازل عنها يُعتبر خيانة للمشروع الصهيوني.

أما الفكر الليكودي، فينطلق من رؤية قومية ترى في السيطرة على الضفة الغربية ضرورة أمنية وسياسية. فحزب الليكود، الذي هيمن على السياسة الإسرائيلية منذ نهاية السبعينات ولغاية يومنا الحاضر، يعتبر أن التخلي عن الضفة سيضعف إسرائيل بشكل كبير ويعرضها لتهديدات أمنية دائمة. ولذلك، تبنى الليكود سياسات توسيع المستوطنات وتعزيز السيطرة الأمنية، مما يجعل إقامة دولة فلسطينية مستقلة أمرًا شبه مستحيل.

الأهداف السياسية والاجتماعية للاجتياحات

تسعى إسرائيل من خلال اجتياحاتها المتكررة للضفة الغربية إلى تحقيق عدة أهداف سياسية واجتماعية:

توسيع المستوطنات: تعتبر إسرائيل المستوطنات جزءًا لا يتجزأ من استراتيجيتها لتحقيق سيطرة دائمة على المنطقة. فمن خلال توسيع المستوطنات وتوسيع البنية التحتية المرتبطة بها، تسعى إسرائيل إلى خلق حقائق على الأرض تجعل من الصعب، إن لم يكن مستحيلًا، التراجع عنها في أي مفاوضات مستقبلية.

فرض واقع ديمغرافي جديد: بالإضافة إلى التوسع الاستيطاني، تسعى إسرائيل إلى تغيير التركيبة السكانية في الضفة الغربية لصالح السكان اليهود. وهذا يتم من خلال سياسات تهدف إلى تشجيع الهجرة اليهودية إلى المنطقة، وتقليص الوجود الفلسطيني من خلال التهجير القسري وتدمير المنازل.

تقويض إقامة دولة فلسطينية: تسعى إسرائيل من خلال هذه السياسات إلى تقويض أي محاولات لإقامة دولة فلسطينية مستقلة. وهذا يتاتى من خلال السيطرة على المناطق الاستراتيجية وفرض نظام أمني وعسكري مشدد، بالإضافة إلى زيادة وتعميق العقبات أمام أي جهود لبناء مؤسسات الدولة الفلسطينية.

أثر الاجتياح على المجتمع الفلسطيني

إن الاجتياحات الإسرائيلية للضفة الغربية تؤثر بشكل عميق على البنية الاجتماعية الفلسطينية، حيث يعاني المجتمع الفلسطيني من مجموعة من التأثيرات السلبية التي تترك آثارًا دائمة:

التهجير القسري: واحدة من أبرز نتائج الاجتياح هي التهجير القسري للسكان الفلسطينيين. فسياسة تدمير المنازل وفرض القيود على البناء، يُجبر العديد من الفلسطينيين على ترك منازلهم وأراضيهم، مما يؤدي إلى تفكك المجتمع الفلسطيني وزيادة حالة الفقر والبطالة فيه.

تدمير المنازل: تدمير المنازل يعتبر من الأساليب المستخدمة لترويع السكان الفلسطينيين ودفعهم إلى الرحيل. هذا لا يؤدي فقط إلى فقدان الممتلكات ولكن أيضًا إلى تدمير الروابط الاجتماعية والتقاليد العائلية التي كانت قائمة منذ أجيال في هذه البيوت المدمرة.

الاعتقالات الجماعية: تشمل سياسات الاجتياح أيضًا حملات اعتقال جماعية تستهدف الفلسطينيين، بما في ذلك الأطفال والشباب. هذه الاعتقالات تؤدي إلى انتشار الخوف وعدم الاستقرار في المجتمع، وتساهم في خلق جيل من الشباب يحمل في داخله مشاعر العداء والإحباط تجاه الاحتلال.

البنية الاجتماعية الفلسطينية: تؤدي هذه السياسات إلى تآكل البنية الاجتماعية الفلسطينية، حيث يصبح من الصعب الحفاظ على الروابط الاجتماعية التقليدية في ظل الظروف المعيشية القاسية والضغوط اليومية.

الانتهاكات القانونية لحقوق الإنسان

تعتبر الاجتياحات الإسرائيلية للضفة الغربية انتهاكًا واضحًا للقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان:

القانون الدولي الإنساني: وفقًا لاتفاقية جنيف الرابعة، يحظر على قوة الاحتلال نقل سكانها المدنيين إلى الأراضي المحتلة، وكذلك الترحيل القسري للسكان الأصليين. ومع ذلك، تواصل إسرائيل بناء المستوطنات وتهجير الفلسطينيين في انتهاك صارخ لهذه الاتفاقية.

حقوق الإنسان: تشمل الانتهاكات الأخرى الاعتقالات التعسفية، التعذيب، وحرمان الفلسطينيين من الوصول إلى المياه والموارد الأساسية. هذه الممارسات تضع إسرائيل في مواجهة مع القانون الدولي، وتعرضها للانتقاد من قبل المنظمات الحقوقية الدولية.

الأخلاق السياسية للاجتياح

تستند إسرائيل في تبرير اجتياحاتها إلى مجموعة من الأسس الأخلاقية والسياسية التي تسعى من خلالها إلى كسب تأييد المجتمع الدولي أو على الأقل تبرير أفعالها أمام الرأي العام:

التبرير الأمني: تدعي إسرائيل أن عمليات الاجتياح ضرورية لضمان أمن مواطنيها في مواجهة "التهديدات الإرهابية" من قبل الجماعات الفلسطينية. هذا التبرير يُستخدم بشكل متكرر لتبرير استخدام القوة ضد المدنيين الفلسطينيين وفرض سياسات صارمة على الأراضي المحتلة.

التلاعب بالأخلاقيات: تقوم إسرائيل أيضًا بالتلاعب بالمفاهيم الأخلاقية لتبرير أعمالها. حيث تصور اسرائيل نفسها كدولة ديمقراطية تواجه تهديدات وجودية، وبذلك تسعى إلى كسب تعاطف الرأي العام العالمي، بينما يتم تجاهل أو تبرير الانتهاكات التي ترتكبها ضد الفلسطينيين.

الردود الدولية والإقليمية

موقف المجتمع الدولي

ردود الفعل الدولية تجاه الاجتياح الإسرائيلي للضفة الغربية متباينة وتعكس التوازنات السياسية والجيوسياسية المعقدة:

الأمم المتحدة: على الرغم من الإدانات المتكررة من قبل الأمم المتحدة، إلا أن هذه الإدانات غالبًا ما تبقى دون تأثير عملي بسبب عدم وجود آليات فعالة تفرض على إسرائيل الالتزام بها. كما أن استخدام الولايات المتحدة حق الفيتو يعيق أي جهود لمعاقبة إسرائيل.

الاتحاد الأوروبي: الاتحاد الأوروبي ينتقد سياسات إسرائيل ولكنه يجد نفسه مكبلًا بعلاقاته الاقتصادية معها، مما يضعف قدرته على اتخاذ إجراءات فعالة.

الولايات المتحدة: الولايات المتحدة تظل الحليف الأقوى لإسرائيل وتوفر لها دعمًا عسكريًا واقتصاديًا كبيرًا، مما يشجع إسرائيل على الاستمرار في سياساتها دون الخوف من عواقب دولية حقيقية.

الموقف الإقليمي

الموقف العربي والإسلامي تجاه الاجتياحات الإسرائيلية للضفة الغربية يتسم بالضعف والانقسام:

التطبيع العربي: في السنوات الأخيرة، شهدنا موجة من التطبيع بين إسرائيل وبعض الدول العربية، مما أضعف الموقف العربي الموحد تجاه القضية الفلسطينية. وحتما هذا التطبيع يقدم لإسرائيل دعمًا سياسيًا إضافيًا ويعزز موقفها على الساحة الدولية.

التحركات الشعبية: في المقابل، نجد أن الشعوب العربية والإسلامية تظل متضامنة بخجل مع القضية الفلسطينية، لان هذه التحركات الشعبية غالبًا ما تواجه قمعًا من قبل الأنظمة التي تسعى للحفاظ على علاقاتها مع إسرائيل.

الخاتمة

في الختام، يمكن القول إن اجتياحات إسرائيل المتكررة للضفة الغربية ليست مجرد عمليات عسكرية مؤقتة، بل هي جزء من استراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى تحقيق أهداف سياسية وأيديولوجية محددة. فمن خلال هذا التزاوج بين الصهيونية الدينية والفكر الليكودي، وتوظيف اتفاق أوسلو كاداة لادارة الصراع وليس حله، بالاضافة الى استراتيجية العمليات والاجتياحات المتكررة، تسعى إسرائيل إلى فرض واقع جديد على الأرض يجعل من المستحيل تحقيق حل الدولتين. ونتيجة لذلك ستبقى القضية الفلسطينية عالقة في مأزق سياسي وأمني معقد، يتطلب تدخلًا دوليًا وإقليميًا جادًا لإنهاء هذا الاحتلال المستمر.