الكاتب: كريستين حنا نصر
تشكل الثقافة السائدة والمطبقة في السلوكيات الانسانية، مؤشراً مهماً على مدى التطور الحضاري الذي وصلته المجتمعات، ومن بين المصطلحات الثقافية والشاملة لمناحي كثيرة، مصطلح (الديمقراطية) والذي يعبر عنها في ثقافتنا وفكرنا العربي بمصطلح ( الشورى)، وبالطبع مع وجود فوارق بينهما كما يرى البعض، ولكن يبقى الاطار العام لهما واحد، ويُحيي العالم في منتصف شهر ايلول من كل عام مناسبة أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها رقم (A/RES/62/7)لعام 2007م، هي ( اليوم الدولي للديمقراطية)، ومن نماذج الدول الديمقراطية البارزة الاردن، والتي ستشهد خلال أيام مظهر ديمقراطي حضاري هو انتخابات مجلس النواب العشرين لعام 2024م.
بعد ما يقارب من مائة عام على استقلال العديد من البلدان العربية، ما تزال الديمقراطية فيها عملياً في خطواتها الأولى، فالديمقراطية من حيث المبدأ لا تفرض على الافراد والمجتمعات، وانما هي إسلوب ونهج وطريقة منظمة للحياة يعتادها الفرد، من هنا تنغرس وتنشأ فيهم ثقافة الالتزام بسيادة القانون واحترام الاراء وقبولها بعيدا عن التحيز والتعصب، ولكن للأسف نلاحظ وجود مظاهر سلبية تتضح في عدم احترام النظام والعمل بشكل يخالف لقانون، مما يحتم على الدولة بسط سيادة القانون بقوة من خلال سلطاتها واجهزتها التنفيذية، وأعتقد أن البلدان العربية ليست ناضجة ديمقراطياً وبشكل كامل حتى الآن، مع الاخذ بعين الاعتبار وجود دساتير وقوانين وانظمة ناضجة في بلداننا، تحرص على خلق مناخ ديمقراطي يضمن ترسيخ حقوق الانسان وكرامته وسيادة القانون وغيرها من القيم والممارسات الايجابية، وتحارب الفساد بكافة انواعه وأشكاله بما في ذلك هدر المال العام وغيرها من الممارسات السلبية، فالديمقراطية من حيث المبدأ تغرس في الفرد الولاء والانتماء والمواطنة الصالحة، وتدفعه نحو العمل لاجل الوطن وتنميته وليس الاساءة له والانقلاب عليه باسم وبحجة الديمقراطية بسبب المصالح الشخصية والمكاسب الفردية، بل الديمقراطية الحقيقية تدعم التشاركية والمصلحة الجماعية الوطنية، فهي منظومة من الحقوق والواجبات يقوم بها الافراد بإخلاص .
ان الدول الديمقراطية الحديثة تستند على علاقة صحية، تتمثل في التشاركية القائمة بين سلطة الدولة الحاكمة والشعب، وجميعهم يتعاون لاقامة دولة عادلة منتجة، ومجتمع فعّال يسعى للنهضة والتطور، والنموذج الديمقراطي الاردني الناجح يشهد دور للاحزاب السياسية المتعددة والمتنوعة بما فيها احزاب جديدة واخرى قديمة، ومن الاحزاب في الساحة السياسية الاردنية حزب جبهة العمل الاسلامي والحزب الشيوعي وحزب البعث العربي وحزب الشعب وحزب الحركة القوميةوحزب الاصلاح والتجديد والحزب الديمقراطي وغيرها على مختلف توجهاتها السياسية، والتي ستخوض الانتخابات البرلمانية لعام 2024م، لتنتقل المملكة الاردنية الهاشمية الى مرحلة أكثر نضجاً ديمقراطياً أو بشكل أدق تتقدم خطوة للإمام في العمل الديمقراطي ومحطاته الاصلاحية.
ان اهم جزئية في الديمقراطية هي مواطن مقتدر يتوفر له مستوى كريم من العيش، يستطيع ان ينتج ويساهم بنهضة وطنه، ولكن تواجه العملية الاصلاحية والديمقراطية في منطقة الشرق الاوسط كله تحديات عديدة، ابرزها هي الحروب والصراعات والنزاعات، وبطبيعة الحال يضاف لها جملة الاضطرابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية باعتبارها متداخلة وتشكل مكون واحد، وهي عوامل ساهمت في تعطيل العملية الديمقراطية وأعادت الأمور الى الوراء، بما في ذلك تراجع ملف حقوق الانسان، حيث ظهرت نكسة حقيقية في حقوق المرأة التي أصبحت معاناتها كبيرة وعلى عاتقها مسؤولية رعاية الاطفال والأيتام، كما أصبحت تطفو على السطح وبوضوح قضايا الفقر والبطالة واللاجئين والنازحين والجوع والمعاناة بكافة صورها ، لتصبح مناخاً معتاداً في الشرق الأوسط للأسف، خاصة ان الدول العربية التي تشهد كل هذه الاضطرابات والتحديات أصبحت مديونيتها ونفقاتها عالية، مما انعكس سلبا على قدرتها في تحقيق الحاجيات الاساسية والرفاه لشعوبها.
الديمقراطية في أجمل صورها هي المساواة في كافة أركان ومناحي الدولة، والمستحقة بموجب ميثاق الديمقراطية المفترض لكل الافراد على اختلافهم، فهي ليست ديمقراطية النخبة أي أن تقتصر مكتسباتها على فئة فقط دون أخرى، ان الكفاءة والحق هي المعيار الذي يجب العمل عليه، الشخص المناسب في المكان المناسب، وهذا وحده ما يحقق حكومة تكنوقراطية، ولكن مشاهد الانتخابات في بلداننا العربية جميعها تظهر أن الناخب يحتكم عند الاقتراع واختيار ممثله الى التحيز نحو اسم العائلة أو الجماعة التي ينتمي اليها، ولا يكون معياره للاسف في الاختيار قائم على الكفاءة ، فالمفروض وحسب الفكر الديمقراطي أن يتم اختيار شخص يملك من المعرفة والخبرة والحكمة ما يمكنه عملياً من أن يكون في المكان المناسب تحقيقاً لمصلحة مجتمعه ودولته، واليوم نحتاج في مجتمعاتنا أن نمنح وندعم الشباب والمرأة وبصورة تمكن هذه الفئات من المشاركة وعدم الاقتصار على نخب معينة ومحددة باستمرار، تتولى للاسف المناصب والمواقع لفترات طويلة.
هناك جانب مهم وهو التربية والتثقيف الديمقراطي، وهو أمر متصل مباشرة بالتربية والتعليم وما تتضمنه من ضرورة التطور في التقنيات والمناهج والاساليب التعليمية والتكنولوجية والوسائل المتطورة والحديثة التي من شأنها تطوير الفكر والممارسة الديمقراطية، كذلك العدالة في توزيع دخل الدولة وموازنتها على سائر الاقاليم والمحافظات بهدف تطويرها والنهوض بها في كافة المجالات اسوة بحال ووضع العاصمة، وهذا من شأنه أن يرسخ أيضاً الشعور الفعلي بوجود العدالة الاجتماعية وعدم اقتصارها على منطقة دون أخرى.
ولأن الدستور وتطوير التشريعات هي العمود الفقري للديمقراطية الذي يحميها ويدفع بها نحو الأمام، فإن الاردن وكنموذج للدولة العربية الديمقراطيةفقد قطع شوطاً كبيراً وما يزال يواصل المضي قدماً في ملف الاصلاح والتحديث وبرعاية وتوجيه سامي مباشر من جلالة الملك، ومثال ذلك اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية وما خلصت له من نتائج يتم العمل على الاخذ بتوصياتها، كذلك تم النظر مجدداً في التشريعات الناظمة لعمل البرلمان وعلاقته بالسلطة التنفيذية، وهي محطات اصلاحية مفيدة في مسيرة أي بلد يسير بخطوات ثابتة نحو التقدم الديمقراطي وبرعاية ملكية تضمن الوصول الى كل ما يفيد المواطن والوطن.