السبت: 21/12/2024 بتوقيت القدس الشريف

"التعلُم الذاتي" فُرصة الاستثمار الذي يفوق المدرسة، الجامعة، والمهنة

نشر بتاريخ: 07/09/2024 ( آخر تحديث: 08/09/2024 الساعة: 17:08 )

الكاتب: صخر سالم المحاريق

الكاتب: صخر سالم المحاريق - أكاديميي ومُختص في مجالات التنمية المستدامة.

يقول أحد الكُتاب والفلاسفة الروس: "أُؤمن بكل ثقة أن التعليم الذاتي، هو التعليم المُثمر الوحيد على وجه الأرض"، ويردفُ الأديب والناقد الإنجليزي جلبرت تشيسترون في حديثه حول أهمية التعلُم الذاتي بالقول: "إن جميع الذين يقدرون التعليم، لم يتلقوا تعليماً جيداً، فبدون هذا، لم يكونوا ليكملوا تعليمهم ذاتياً"، فما هو "التعلُم الذاتي"، وما هو دورهُ في صناعة الذات معرفياً، ومهارياً، وإبداعياً، وما هي أهميته في نيل فرصةٍ مُساويةٍ للغير في التعليم في حال فُقدان الأدوات وفرص الوصول للتعليم المدرسي والجامعي، كذلك ما هي أهميته في التطور المهني ومجابهةِ ظروف الحياة وتحدياتها.

بدايةً عزيزي القارئ دعنا نُعرف لك ماهية "التعلُم الذاتي"، والذي هو من وجهة نظري يعتبرُ مفهوماً دالاً على نفسه من وحي مُسماه، فالتعلُم الذاتي والذي يُطلق عليه أيضاً مُصطلحات مثل: التعلُمِ مدى الحياة تارةً، والتعلُمِ المُستمر تارةً أُخرى، بحيث يُعرفه قاموس هاربر كولينز (للعلوم الاجتماعية والتربوية) بأنه "حُكم أو استخدام فرص التعليم الرسمية وغير الرسمية طوال حياة الناس من أجل تعزيزٍ، وتطويرٍ، وتحسينٍ مُستمر لجملة (المعارف، والمهارات) اللازمة للعمل وتحقيقِ الذات، ويُمكننا تلخيص ذلك في تعرفيه أيضاً على أنه أي (التعلم الذاتي) "تحصيل العلم مدى وعرض الحياة بدافعِ ذاتي لأسبابٍ شخصية أو مهنية، ويعتمدُ هذا المبدأ على فكرة أن التعلم غير مُحدد في فترةِ الصغر أو في غُرفةِ الدراسة بل يتعداها إلى كُل مراحل العمر وفي أي مكان".

إن "التعلُم الذاتي" أحد أهم أدوات التعلم القديمة والمُعاصرة، والتي لا تَتَقادم مع مُرور الزمن، فهوَ من نَقلَ البشرية إلى الأمام، وحَفزَ جهود مُعظم العلماء لنصل إلى ما نحن عليه اليوم من نظريات وبراءات اختراع، في الحين الذي لم يكن فيه التعليم "النظامي والرسمي" من الأصل موجوداً كشكله الحالي، فمثلاً في بلادنا العربية والإسلامية سبقت "الكتاتيب" المدارس في نشأتها، وهي حلقاتُ علمٍ مركزها شيخ أو عالم أو أديب أو لُغوي وإطارها المُستدير طلبة صغار بأعمارٍ مُتفاوتة، حتى مفهوم "الجامعة" هو الآخر ظهر في القرن التاسع عشر، وكانت جامعة "بولونيا" أقدم جامعة في العصر الحديث بعد أن عُرفت الجامعات بشكل عام في بلاد الاغريق، وفارس، والهند، ومصر.

ونحن هُنا لا نغفل أهمية ودور التعليم "النظامي والرسمي" ومستوياته المختلفة؛ والذي يبدأ بالمدرسة ومراحلها الثلاث (الابتدائية، والإعدادية، والثانوية)، مُروراً بالمعهدِ أو الكليةِ أو الجامعةِ ودرجاتها العلمية الأربعة (الدُبلوم أو الليسانس، البكالوريوس، الماجستير، والدكتوراه)، فهي تمثلُ المنظومة الرسمية للتعليم، وهي الأساس في تعلم المعارف وأصناف العُلوم المُختلفة، وهي من تمنح رُخص مُزاولة الكثير من الاختصاصات والمهن المقترنة بها من خلال "الدرجات العلمية" سابقة الذكر، والممنوحةِ في شكلِ شهادات جامعية، بحيث يعدُ "التعلم الذاتي" بمثابةِ الجُهد الفردي الخالص المُعزز لها ولبنائها الأساسي في عملية التعليم والتعلم، فهو البحر الزاخر الذي لا ينفد، المُستمر في عطائه مدى الحياة.

لكن يُمكِننا القول بأن أشكال التعليم النظامية والرسمية السابقة، ما هي إلا مراحل مؤقته لها بدايةً ونهايةً مُحددة، وكونها محددة المدة والعلوم في تغيرٍ وتطورٍ مستمر وفيها كل يوم جديد، فهي تتوقف بك عند حدٍ مُعين من (المعارف، والمهارات) والتي هي بحاجة إلى تحديثٍ وتطويرٍ مستمرين لمواكبة التغيرات في مجال اختصاصك أو مهنتك، ولا يتحققُ لك ذلك سوى بِ "التعلم الذاتي" ليس فقط على صعيد اختصاصك وما يرتبطُ به، بل أيضاً على صعيد تطورك المهني، والاجتماعي، والثقافي بشكل عام، فهو التعليم الأكثر مُرونة والأجدر بالاستثمار طُوالَ فترةِ حياتك؛ التعليم الذي تملكهُ أنت في مُختلف الظروف للتدرب على الحياة، ومجابهة تحدياتها دون توجيه أو تقنين من أحد في سعي منك لتنمية مواهبك وقُدراتك الإبداعية المُختلفة.

فالتعلم الذاتي من وجهة نظري هو مدرسة الذات وجامعتها، والتي تملكها وتُديرها أنت، فهو الاستثمار الحقيقي لأي شخص للمزيد من التطور في مُختلف جوانب الحياة، وهو من يقودنا للوصول لأعلى مراتب سُلم ونظرية هرم ماسلو للحاجات أي تحقيق الذات وتقديرها فيما بعد من الغير، كما يعدُ المُحرك للبناء (المعرفي، والمهاري) لخلق ميزاتٍ تنافسية شخصية على صعيد العمل، المهنة، الاختصاص، المُجتمع، والدور القيادي والريادي لأي شخص مبادر وصاحب بصمة.

لكنه بحاجة أيضاً لغايةٍ محددةٍ وهدف، بحاجة لنهمٍ للتعلم واستعدادٍ وحافزٍ شخصي، بحاجة لجهدٍ متبوعٍ بكَّدٍ وَجلدْ، بحاجةٍ لوقتٍ يُستغلُ بشكلٍ أمثل، بحاجة لأدواتٍ ووسائل للتعلم فالعولمة والتكنولوجيا اليوم وإنترنت الأشياء جعلت من هذا النوع من التعلم أكثر يُسر وسُهولة وبساطة في الوصول عمَّ كان سائداً عليه في السابق من عناء وتعب، لذا استثمروا في ذواتكم عبر هذا النوع من التعليم فالمعارف والمهارات اليوم تجاوزت حُدود المدارسِ والجامعات، وانتقلت لمشاكل وحُلول في بيئات العمل، والمجتمعات، والحياة العامة؛ بحيث تستندُ اليوم إلى المهارات (التخصصية، والحياتية، والرقمية) المتغيرة باستمرار، والتي هي بحاجة لمرونة وحافز للتعلم الذاتي المُستمر مدى الحياة لتطوير الذات لمواكبتها والتغلبِ عليها.