الكاتب: وائل زبون محاضر في جامعة فلسطين الاهلية
على مدار عقود، كانت الولايات المتحدة لاعبًا رئيسيًا في السعي لإيجاد حلول للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وبشكل خاص فيما يتعلق بالصراع بين إسرائيل وحركة حماس منذ ان خرجت اسرائيل من قطاع غزة عام 2005. ورغم الجهود الدبلوماسية والمبادرات المتكررة، يتكرر الفشل في التوصل إلى حلول مستدامة، وهو ما يطرح تساؤلات حول العوامل الهيكلية والجيوسياسية التي تساهم في هذا الفشل. ولكن من خلال التعمق في نظريات الاحتلال والهيمنة، يمكن فهم الأسباب العميقة لهذا الإخفاق وتقديم تفسيرًا أكثر شمولية لما يحدث، بما يتجاوز التصورات السطحية التي تركز على الجوانب العسكرية والسياسية التقليدية.
الاحتلال: مفهوم بنيوي يعيد إنتاج الهيمنة
يُعرّف الاحتلال في النظريات السياسية الحديثة بأنه ليس مجرد سيطرة عسكرية على الأرض، بل هو نظام شامل يهدف إلى إخضاع السكان المحليين والسيطرة الكاملة على مواردهم ومصادر قوتهم. فالاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة والضفة الغربية هو نموذج مركب يعكس هذا النوع من السيطرة. الاحتلال الإسرائيلي ليس هدفه فقط السيطرة العسكرية، بل يتمثل في إنشاء بنية هيكلية تتيح لإسرائيل الهيمنة الدائمة، وتجعل من الصعب على الفلسطينيين تطوير أي قدرة مستقلة سواء كانت اقتصادية أو سياسية او حتى اجتماعية.
فلو تفحصنا ما جرى في غزة وتحديدا بعد الانسحاب منها عام 2005، فان الاحتلال فد تجاوز جوانب الحصار الاقتصادي والعسكري ليشمل سيطرة على كل تفاصيل الحياة، من الموارد الطبيعية إلى حركة البضائع والأفراد. وهذه السياسة لا تهدف فقط إلى تقييد حركة المقاومة الفلسطينية، بل تعزز من بنية الهيمنة الإسرائيلية وتجعل من الصعب على غزة كما الحال في الضفة الغربية على أن تكون كيانًا قادرًا على الوقوف بوجه الاحتلال. ومن هنا يمكن فهم هذه الحرب الإسرائيلية على غزة بكونها ليست مجرد "رد على التهديدات"، او على انها جاءت نتاج السابع من اكتوبر بل هي جزء من عملية طويلة لتعميق الاحتلال واستمراره. وللاحتلال الاسرائيلي استراتيجية أوسع تهدف إلى إعادة تنظيم الجغرافيا والسياسة والسكان بما يخدم أهداف إسرائيل الاحتلالية طويلة الأمد.
وإسرائيل هنا ضمن هذا المفهوم لن تكتفي بفرض حصار اقتصادي أو عسكري على قطاع غزة بعد انتهاء الحرب، بل ستعمل على توظيف كل عناصر الهيمنة لفرض واقع جيوسياسي جديد يحول دون تمكين الفلسطينيين من نيل حقوقهم الوطنية. وهنا يظهر جلياً موقف إسرائيل من "ممر فيلادلفيا" ليس فقط لأسباب أمنية تتعلق بمنع تهريب السلاح كما تدعي اسرائيل، بل هو جزء من سياسة أعمق لضمان استمرار الحصار المفروض على غزة، وإضعاف أي محاولة لتطوير البنية التحتية العسكرية أو الاقتصادية الفلسطينية، المصاحبة لتغيير بالواقع السكاني في قطاع غزة.
الولايات المتحدة: وسيط مهيمن أم إدارة للأزمة؟
لا يمكن تحليل فشل الجهود الأمريكية في التوصل الى اتفاق لوقف اطلاق النار لهذه الحرب المستعرة والمتجاوزة كل الحدود الانسانية بدون فهم دورها كقوة مهيمنة تسعى لإدارة الصراع بدلاً من حله. فالولايات المتحدة، باعتبارها قوة عظمى، تتبنى استراتيجيات إدارة الأزمات وليس حلها من الجذور. ويتجلى هذا في تبني واشنطن لموقف مزدوج: فهي تدعم إسرائيل بشكل شبه مطلق، مع تبني جميع مواقف اسرائيل دون نقاش بل وحتى انها تذهب لتوظيف كل طاقتها والياتها في العلاقات الخارجية لفرض وتسويق مواقف اسرائيل على العالم، وفي الوقت نفسه تسعى إلى تقديم نفسها كوسيط نزيه يسعى لإنهاء المعاناة الإنسانية.
وهذا النهج في جوهره يعكس "إدارة الصراع" بدلاً من إنهائه. من خلال نظريات الهيمنة، يمكن القول إن الولايات المتحدة تسعى للحفاظ على النظام القائم بما يخدم مصالحها الإقليمية والعالمية، حيث يتطلب ذلك استمرار إسرائيل كقوة إقليمية مهيمنة، دون السماح بتطور حقيقي لاي حالة في الاقليم وخصوصا الوضع الفلسطيني. وهنا يظهر التناقض الصارخ: واشنطن تضغط لإبرام صفقات سلام، ولكنها في الوقت نفسه تمول وتعزز التفوق العسكري الإسرائيلي، مما يجعل جهودها مجرد أدوات لإدارة الأزمة وليس لحلها الجذري.
ازدواجية المعايير: تشويه حقوق المقاومة تحت مظلة مكافحة الإرهاب
في حين تُدافع الولايات المتحدة والدول الغربية عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، تُشوه المقاومة الفلسطينية تحت ذريعة "مكافحة الإرهاب". وفقًا لنظريات الاحتلال، يُعد حق الشعوب المحتلة في المقاومة جزءًا لا يتجزأ من القانون الدولي. لكن في الخطاب الغربي، يتم تشويه هذا الحق وتجريمه، مما يسهم في قلب المعادلة السياسية وتحويل الضحية إلى الجاني. هذا النهج يغذي سياسات الاحتلال، حيث يُستخدم مصطلح "الإرهاب" كأداة لإسكات المقاومة الفلسطينية ولتبرير الهجمات الإسرائيلية على السكان المدنيين في غزة.
فازدواجية المعايير هذه تسهم في إطالة أمد الحرب وتعقيد جهود إنهائها. فبدلاً من معالجة جذور الأزمة - وهي الاحتلال الإسرائيلي - يتم التركيز على تجريم المقاومة الفلسطينية، مما يُعمّق الانقسام ويُسهم في استمرار الصراع. هذا الاستخدام السياسي لمكافحة الإرهاب يعزز من سياسات إسرائيل ويمنحها الشرعية الدولية لمواصلة هجماتها على غزة تحت ذريعة "الدفاع عن النفس".
الديناميات الداخلية الإسرائيلية: استخدام الحرب لترسيخ الاحتلال
فالحروب التي شنتها إسرائيل على غزة وهذه الحرب الحالية لا يمكن فهمها فقط من خلال السياسات الخارجية، بل يجب تحليل الديناميات الداخلية التي تغذي وتدفع باتجاه تصعيد هذه الحروب. ففي سياق السياسة الإسرائيلية، يُستخدم النزاع مع غزة كأداة لتحقيق مكاسب سياسية داخلية. على سبيل المثال، يُستخدم استمرار الحرب لتبرير سياسات التشدد، وتقوية مكانة اليمين الإسرائيلي، والصهيونية الدينية، والمحافظة على تماسك الحكومة الإسرائيلية. ولهذا يعتبر نتنياهو الصراع مع حماس وسيلة لتعزيز موقفه السياسي والحفاظ على تماسك ائتلافه الحكومي، الذي يضم أطرافًا يمينية متطرفة. فالاحتلال بالنسبة لنتنياهو ليس فقط سياسة خارجية، بل هو أداة للحفاظ على السلطة داخليًا، حيث يتم استخدام "الخطر الوجودي" من المقاومة الفلسطينية ومحور المقاومة ومن إيران لتبرير استمرار سياساته المتشددة.
فرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، يستخدم الحروب مع غزة لتعزيز صورته كقائد قوي يحمي إسرائيل من "التهديدات الإرهابية". الاحتلال بالنسبة لنتنياهو ليس مجرد سياسة خارجية، بل هو جزء من استراتيجيته للحفاظ على السلطة، سواء داخليًا أو خارجيًا. وهذا يُظهر كيف أن استمرار الاحتلال والحروب يعزز من ديناميات السيطرة الداخلية لنتنياهو في إسرائيل، ويسهم في تعميق الصراع بدلًا من حله.
حماس والمقاومة: المقاومة في ظل الحصار والتشويه الإعلامي
اما بالنسبة لحركة المقاومة الاسلامية حماس وبقية الفصائل المقاومة، يُعتبر الصراع مع إسرائيل جزءًا من استراتيجية المقاومة ضد الاحتلال. لكن هذه المقاومة تواجه تحديات هائلة نتيجة الحصار المفروض على غزة والذي يُعقد قدرتها على تحقيق إنجازات ملموسة. في ظل هذه الظروف، فالمقاومة تتبنى استراتيجيات متنوعة، تشمل المقاومة المسلحة والدبلوماسية الإعلامية. حيث تُسهم هذه الاستراتيجيات في تقديم المقاومة وتحديدا حماس نفسها كحركة مقاومة شرعية، لكن القيود التي يفرضها الاحتلال والحصار الاسرائيلي والغربي واحيانا العربي تعوق من قدرتها على تحقيق أهدافها.
فالتحديات التي تواجهها المقاومة وعلى راسها حماس ليست فقط ميدانية، بل إعلامية أيضًا. فعلى الصعيد الدولي، تواجه حماس تشويهًا مستمرًا في الإعلام الغربي، حيث تُصوَّر على أنها "جماعة إرهابية" تسعى إلى تدمير إسرائيل. هذه الرواية تُستخدم لتبرير الهجمات الإسرائيلية على غزة، وهي جزء من لعبة الهيمنة الدولية التي تُسهم في إطالة أمد الصراع. ومن خلال هذا التشويه، تُحاصر حماس سياسيًا وعسكريًا، مما يجعل من الصعب تحقيق أي تسوية مستدامة معها.
الختام: الحرب هي أداة لاستمرار الاحتلال
من خلال نظريات الاحتلال والهيمنة، يمكن القول إن الحروب الإسرائيلية على غزة ليست مجرد مواجهات عسكرية لحظية، بل هي أدوات استراتيجية تهدف إلى تكريس الاحتلال الإسرائيلي وتعميق الهيمنة الإقليمية. فالولايات المتحدة تلعب دورًا مزدوجًا في هذه الحروب، حيث تدير الأزمة بما يخدم مصالحها دون السعي لحل حقيقي للصراع. ومع استمرار هذه الحروب على غزة فانها تعزز من بنية الاحتلال وتمنح إسرائيل المزيد من الوقت لفرض واقع جديد يصعب تغييره في المستقبل، وهذا ما تسعى اليه اسرائيل لاغلاق وانهاء ملف الحلول مع الفلسطينيين دوليا.
ولكن من أجل الوصول إلى حل حقيقي ومستدام، يجب أن يتم التركيز على إنهاء الاحتلال نفسه، باعتباره الجذر الأساسي للصراع والغاء كل الاتفاقات والتفاهمات العربية او الفلسطينية مع اسرائيل التي لا يرد في سياقاتها بان اسرائيل دولة محتلة ويجب انهاء تبعات الاحتلال، ودون ذلك، ستستمر الحروب في غزة وعلى مستوى الاقليم وستظل الولايات المتحدة وإسرائيل تُديران الصراع بما يخدم مصالحهما على حساب حقوق الشعب العربي والفلسطيني.