الكاتب: كريستين حنا نصر
يحيي العالم هذه الأيام مناسبة أممية أعلنتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1981م، وهي تحديد يوم 21 أيلول من كل عام ليكون ( اليوم الدولي للسلام)، كما اتفق على أن تكون السنة القادمة 2025م ( السنة الدولية للسلام)، وكلا هذه المناسبات جاءت بهدف تعزيز السلام وتمكين المجتمعات من العمل لاجل السلام والمحبة والاستقرار.
لقد شهدت العقود الأخيرة من هذه الالفية وتحديدا آخر مائة عام منها، تطوراً ونهضة معرفية يمكن تسميتها بالثورة التكنولوجية، وهي منجزات متراكمة مرتبطة بميادين الاختراع والصناعة، ومن ذلك اكتشاف الكهرباء وتطبيقاتها من الانارة وغيرها، اضافة الى اختراع الحاسوب وما يتصل به من البرمجيات وما تلاها من اختراع الهاتف والموبايل و اللاسلكي، ولكن يبقى اختراع شبكة الانترنت مهما بوصفه ابتكار لنشر المعلومات وأداة تساعد في التواصل الاجتماعي، وبالتالي زادت مع هذه النهضة الثقافة وتوسعت عملية تبادل المعارف بين الافراد والحضارات الانسانية، ليصبح العالم المترامي الاطراف وحدة كاملة مترابطة، وبات العالم فعلاً قرية صغيرة أو شاشة هاتف يحملها الانسان في كل مكان، هناك فعلياً حالة تعيشها المجتمعات في الوقت الحاضر تتسم بسرعة الحصول على المعلومات والتواصل عبر الايميل (Email)، ولكن يبقى السؤال هنا، أنه ومع كل هذا التطور المعرفي والتكنولوجي لماذا يبقى الفقر والمجاعة وتتزايد الحروب والصراعات، وتفارق الرحمة قلوب البشرية؟، لقد تحول الانسان البسيط الى مادي يشغل تفكيره المادة والمظاهر ، بعيدا عن الجوهر الروحي المتصل بالاخلاق، واصبح المخلوق بعيداً عن تعاليم خالقه، فانتشرت في مجتمعاتنا آفة المخدرات وتعاظمت مستويات واشكال الجرائم، والحالة الراهنة هي بحق انعدام السلام بين الشعوب نفسها من جهة وبين الدول وغيرها من جهة أخرى، لتسود عملياً شريعة الغاب وتسيطر على العالم سيادة الأقوى الذي بات يفترس وينتهك حقوق الاضعف منه.
وهذه الحالة العامة تنطبق تماماً على الدول العربية ومنطة الشرق الاوسط، حيث نعيش في ظل التكنولوجيا والتطور واقع اليم من الحروب والصراعات العرقية والمذهبية، فبعد عقود من استقلال البلاد العربية ومرحلة ما يسمى بالربيع العربي تعيش هذه البلاد اياماً هي الاسوأ، وبشكل تتسارع معه الاوضاع نحو الاصعب أيضاً، ازمات وتحديات اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية وعلى كافة الاصعدة، تتمثل في الديون المتراكمة والانحطاط والتراجع في التعليم والصحة والخدمات خاصة في مناطق النزعات المشتعلة، اضافة إلى التراجع في القيم وغياب للعادات والتقاليد الإيجابية يرافق ذلك مشاهد من تفكك الترابط الاسري أو العائلي، كما يلاحظ وجود بعض حالات التفكير المتطرف القائم على عدم قبول الاخر المختلف عنّا وعدم احترام رأيه وتوجهاته، على اختلاف أصله وعرقه ومذهبه، وللاسف اصبحنا نرى أن السلام الروحي معدوم والسلام الأمني مفقوداً أيضاً.
هناك مشاهد حيّة على غياب السلام، كما هو الحال في الحروب الجارية في العراق وما شهدته من حوادث قتل للاقليات في الموصل من قبل الارهابيين، وصدامات لاسباب دينية وعرقية مما جعل العراق يعود للوراء، ويشعر الشعب فيه بحالة من استشراء الفساد والفقر بالرغم من انه بلد نفطي، وهذه الحالة المتزامنة مع الفقر والجوع تجعل من السلام واقع وتطلع مفقود صعب المنال، كذلك الحال في سوريا التي تشهد هي الاخرى حروب وتدخلات خارجية وصراع طائفي ومذهبي بما في ذلك داعش، ليصبح السلام مفقوداً، كذلك الحال بالنسبة لغيرها من الدول والتي وعلى الرغم من استقرارها الامني الا أنها تعاني من أزمات اقتصادية وديون متراكمة وجراء الحرب في غزة تفاقمت عليها بعض الاثار مثل انخفاض الدخل السياحي، الى جانب تفشي واضح للظواهر الاجتماعية المقلقة مثل البطالة وعزوف الشباب عن الزواج وزيادة نسب العنوسة، وغير ذلك من الظواهر التي تقاسيها المجتمعات بالرغم من التطور التكنولوجي الذي يفترض ان تعم معه الرفاهية والسلام.
وبالنسبة للقضية الفلسطينية والاوضاع في فلسطين هناك واقع عصيب لحرب مستمرة بالرغم من اطلاق مبادرات سلام متعددة، مثل السلام مقابل الارض والان السلام مقابل السلام، فاصبحت الحالة فقدان للأرض والسلام فتحول البحث عن السلام الى صراع يتزايد معه زهق الكثير من الأرواح والاعتداء على الممتلكات والاموال خاصة أثناء الصراع الدائر في غزة، لقد أصبح عالمنا يعاني من تراجع في جملة الحقوق بما فيها حقوق الانسان، خاصة معاناة المرأة وتزايد واضح بسبب الحروب في اعداد الارامل والأيتام، وكل ذلك سببه توسع دائرة الصراع وحجم ساحة الحروب.
والملاحظ أن العالم كله وخاصة منطقتنا العربية باتت تشهد من الناحية التكنولوجية الدخول الى مرحلة الحروب الدفاعية والمواجهات السيبرانية المتطورة والسريعة سواء فيما يتعلق بإنتقاء أو قنص الأهداف والايجهاز والقضاء على الأعداء، كما نلاحظ اليوم أيضاً تفاقم الاوضاع والمتمثل باستمرار الحرب الدائرة في الشرق الاوسط وتزايد الصراع ذو الطابع السني والشيعي في بعض البلدان العربية مؤخراً، يضاف لكل ذلك سيطرة واضحة لايران على بعض الدول من خلال الحلفاء والوكلاء المؤيدين لها، الى جانب توسع الصراع في غزة لمواجهات في الجنوب اللبناني بين حزب الله واسرائيل، يتزامن معه أيضاً العمل العسكري داخل الاراضي السورية نفسها.
ان ما شاهده العالم على وسائل الاعلام من الحرب السيبرانية والتي يمكن القول بأنها خطفت الانظار أو المشهد العالمي، هي نتيجة مباشرة للتطور التكنولوجي، حيث اوقعت المواجهة السيبرانية في لبنان وعلى مرحلتين الاف المصابين وعشرات القتلى، ففي اليوم الاول سقط 12 قتيلا وقرابة 3000 مصاب، وفي اليوم الثاني سقط 15 قتيلاً و 450 مصاباً، وذلك بسبب انفجار في اجهزة البيجر واتصالات اللاسلكي، وكانت الاصابات واسعة النطاق في لبنان وسوريا وفي آن واحد، ان قواعد الحرب وطبيعة المواجهات تغيرت في الحرب السيبرانية المعاصرة ، فاصبحت سمتها السرعة في القضاء على الاهداف وعن بُعد أيضاً، ليكون السلام المنشود عند سكان هذه الارض وللاسف مفقوداً، فاذا دخلنا حرب عالمية ثالثة فانها حتماً سوف تكون مرعبة ومؤلمة على الانسان، وستكون نتيجتها وبدون شك مدمرة وعلى نطاق واسع، وإذا اردنا الحكم على واقعنا الحديث والاجابة أيضاً على سؤال مهم وهو أين السلام، ستكون الاجابة وبعبارة واحدة هي (( ان السلام مفقود على هذه الأرض وعن هذه المجتمعات كلها بالرغم من أن التكنولوجيا تشهد تطوراً ونهضة غير مسبوقة)).
ان الغاية المفترضة هي أن تستخدم التكنولوجيا لخدمة الشعوب، ولكنها أصبحت اليوم للاسف أداة لقتل هذه الشعوب، وبالرغم من ذلك كله يبقى الأمل بأن يكون السلام دائماً مطلباً انسانياً بالرغم من كل الظروف، فهو أساس الحياة والكرامة الانسانية.