الكاتب: صخر سالم المحاريق
تُعتبر الجامعات مَنظوماتٍ مُجتمعية مُنفتحةٍ بطبيعتها على سوق العمل، إذ تتأثر به وتُؤثر فيه، فهي تتأثر به في عدة أبعد منها: (مُتطلبات العمل والتشغيل، متطلبات التكنولوجيا، الظُروف السياسية، الاقتصادية والاجتماعية)، وتُؤثر فيه كأداة للتنمية الشاملة عبر عملية "التَعليمَ والتَّعَلُمَ"، فالتعليمُ عماد التنمية الشاملة ومُحرك قطاعاتِها المختلفةِ، وخاصة الاقتصادية والاجتماعية منها. ولو أمعَّنا النظر لبُرهَة في المعنى الحرفي والاصطلاحي لمُسمى (جامعة)؛ لوجدنا أنها إطار تنظيمي شُمولي، يضم مجموعة من الكُليات والدوائر كتقسيمات إدارية وتنظيمية، مُصنفة المُسميات والاختصاصات، ومُحددة الأهداف والغايات.
ينقسم عزيزي القارئ التعليم الجامعي في مُستوياته للتأهيل إلى قسمين رئيسيين هُما: التعليم الأكاديمي (الجامعي)، والتعليم المهني والتقني (الفني)، إضافة إلى ثلاثة أدوار رئيسية يجب أن تلعبها المؤسسات التعليمية في مُجتمعاتها عبر أهدافها المرسومة وهي أولاً: الإنتاج المعرفي والبحثي، ثانياً: توفير كوادر بشرية مُتخصصة ومؤهلة نظرياً وتطبيقياً، ثالثاً: الخدمة المُجتمعية، ويجب عدم الخلط في ذلك عند بناء استراتيجياتها وأهدافها، هذا هو الدور "القيادي والريادي" والذي يُفترض بالجامعات القيام به في مُجتمعاتها.
لكن! التساؤل والذي تطرحهُ هذه المقالة مفاده ...
ما هي أهمية الاستثمار المالي في تعزيز دخل الجامعات ومؤسسات التعليم العالي؟
ما هي أهمية الاستثمار المعرفي والبحثي في استمرارية البقاء وسط تلك المشكلات وعلاجها؟ كيف تبني الجامعات جودتها وسُمعتها الأكاديمية؟ ما هو الدور المنوط بالجامعات في ظل تلك الظروف؟
في المقابل ...
إلى متى ستبقى جامعاتنا بعيدة كل البُعد عن واقع سوق العمل، وعن قيادته والتأثير الفعلي فيه؟
متى ستصبح الشركة الفولانية، والمصنع، والمزرعة، استثمار خاص بالجامعة الفلانية، تعزز بها من إيراداتها، لتقود بها وعبرها بمنهجية علمية سَليمة، سُلَمْ الحاجات والرغبات الوطنية ؟ إلى متى سيبقى "البحث العلمي" مُجرد بُحوثاً وأبحاثَ وصفية تقليدية، تُحاكي الغير، بحيث لا تُنمذجْ ولا تُقولبْ الاختراعات والمبتكرات الحصرية والخاصة ؟ إلى متى سيبقى "القسط الجامعي" في تضخمٍ مُستمر، و(متى) سنتخلصُ منه نهائياً؟
إلى متى ستبقى مُؤسساتنا التعليمية بمعزل عن حصتها في "الحوافز والدعم الحكومي" ولا تناله، والذي يُعتبر مقياساً للأداء الحكومي المثالي؟
الإجابة على هذه التساؤلات تُلخصها الحقائق تالية الذكر والتي تضع الجامعات موضعها السليم كقائد للمجتمعات وحاجات التنمية الحقيقية فيها؛ وهي على النحو الآتي:
المُعضلة الأولى والحل! تُشير إلى أن المصدر الأساسي للدخل، أي (السيولة النقدية) الوحيدة لمؤسسات التعليم العالي الفلسطيني هو "أقساط الطلبة الفصلية"، إضافةً إلى ما تقدمه وزارة التربية والتعليم العالي من مُخصصات مالية كمساعدات ضمن موازنتها المتواضعة والتي أوقفتها منذُ سنين، وبعض المشاريع الدولية الصغيرة التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع؛ هذه الحقيقة تضع تحدي أمام الجامعات المحلية من خلال المزيد من النفقات مقابل المزيد من استقطاب الطلبة، ناهيك عن البطالة المُرتفعة وبالتالي الإحجام عن التسجيل في الكثير من التخصصات التقليدية، والتي كانت بمثابة فُرص استثمار واستقطاب لها ودخل في العديد من التخصصات، لدرجة أن عدد الملتحقين فيها بات اليوم معدوداً على الأصابع، وبعضها الآخر شارف على الإغلاق.
لذا يجب على الجامعات الاستثمار الذاتي أو الشراكة مع مُستثمرين في القطاعات الحيوية للاقتصاد، في (الصناعة، التجارة، الزراعة، الخدمات، التكنولوجيا المُتقدمة، الحصص السهمية، .. وغيرها)، بحيث تُصبح الشركة، والمصنع، والمزرعة الفولانية تتبع للجامعة كذا، وبالتالي يُصبح هنالك استدامة مالية لتلك الجامعات ومصادر دخل مُتعددة، ناهيك عن تحقيق جودة ومنهجية سليمة في قطاعات الإنتاج كافة، إنتاج مُرتبط بالبحث العلمي السليم، إضافة إلى الاستثمار في جوانب التدريب، الاستشارات، العطاءات الضخمة مع الحُكومات، القطاع الخاص، والمؤسسات الأخرى، كذلك الاستثمار الموجه للخارج.
وهُنالك جامعات عالمية مرموقة ودول ومجتمعات مثل (ألمانيا، وسويسرا، فرنسا، فنلندا، النمسا، .. وغيرها)، التعليم فيها مجاني أو شبه مجاني.
المُعضلة الثانية والحل! مُخرجات البحث العلمي للجامعات العربية وتأثيره في عمليات التنمية في مُجتمعاتنا يكاد يُلامس الصفر، فهو مُجرد جهود فردية للباحثين العرب يقطف ثماره الأجنبي، وعليه إن الاهتمام بالبحث العلمي، والعمل على تطبيق نتاجه هو السبيل الوحيد نحو الابداع والابتكار، والتميّز للفعل والفاعل، فالاستثمار في المعرفة يحقق أفضل العوائد، من خلال استخدامه كأداة للبحث وصفاً وللتطبيق الملموس نتيجةً، وكنوعٍ من التطوير المُستمر للمنطقة ومُحيطها، في علاقة التأثير والتأثر المتبادلة، إذا ما اهتمت جامعاتنا وأرباب العمل بالبحث العلمي، وسعينا معاً لتطبيقه محلياً، سنقوم بلا شك بتخفيض البطالة، وزيادة الانتاج، والتصدير وليس الاستيراد، عندها سنستورد عمالاً وليس بضاعةً، وسوف نستوعب خريجين من البلاد المجاورة للعمل في فلسطين، بدل أن نذهب للعمل في بلدانهم، وسنعيدُ فلسطين سيرتها الأولى.
المُعضلة الثالثة والحل! جميع تخصصات جامعاتنا المحلية والعربية تقليدية بحته، تُخرج موظفين وعُمال بمهارات محدودة، وقلما تخرج رياديين أو مُخترعين أو مُبتكرين، وبالتالي يجب على الجامعات الاستثمار في هذه الجوانب بقوة وجعل البيئة الجامعية بيئة ومُناخ تعليمي مُحفز على الإبداع والابتكار لا مقننة له.
هذا يفرض على الجامعات تبني معايير صارمة في بناء خُطط تخصصاتها، تطوير أدواتها التعليمية، واستخدام أحدث التكنولوجيا، كذلك البحث عن الجودة الحقيقية في متطلبات القبول والتسجيل، كما يُحتم ذلك على وزارات التعليم العالي التنظيم السليم لاعتماد التخصصات الجديدة المُرتبطة بمتطلبات الواقع الفعلي واحتياجاته، وعمل دراسات حقيقية ومُشتركة مع الجامعات والأطراف ذوي العلاقة تعكسُ حقيقة هذا الواقع، كونها الناظم للعلمية برمتها.
المُعضلة الثالثة والحل! هُنالك تراجع لدور الجامعات الريادي مُجتمعياً، فالأكاديميين، والمُثقفين، والمُتعلمين، على الهامش، على الهامش في أُسرهم، في مؤسساتهم، في مجتمعهم، فقد قل وندر وجود الأدباء، الشعراء، دور النشر، الصالونات الثقافية، الحوارات الواعية، وأصبح يطفو على السطح الزبد، وأما ما ينفع الناس فعلى الهوامش مع الأسف.
خلاصة القول: إن الجامعات تكوينات علمية ذات هدف وتأثير، فهي مصنع الفكر، والمعارف، والمهارات لأي مُجتمع، وهي قائدة للمجتمعات التي تدرك أهميتها فهي ضابط عملية التنمية الحقيقية، والضامن الفعلي لجودة نجاحها.
* أكاديمي مُتخصص في مجالات التنمية المُستدامة.