الكاتب: اسامة خليفة
استراتيجية الحرب الإسرائيلية التي قامت عليها سياسة اسرائيل العدوانية التوسعية تداعت مقولاتها الواحدة تلو الأخرى، سقطت مقولة الحرب الخاطفة، وفشلت مقولة الحرب الاستباقية أو الضربة الاستباقية، وتآكلت مقولة الردع وكي الوعي، ولم يبق لها غير استراتيجية الحرب الإجرامية باستهداف المدنيين ومنشآتهم ومنازلهم، استراتيجية التدمير والأرض المحروقة، وبث الرعب والذعر والقتل وإراقة الدماء في صفوف المدنيين، والاستثمار فيها لجني ثمار الجرائم الوحشية من آلام ومعاناة المواطنين الشديدة للضغط على المقاومة لتقديم تنازلات.
روّج جيش الاحتلال الإسرائيلي وقادة سياسيون لاستخدام حزب الله منازل سكنية للمدنيين ومرافق مدنية خاصة في جنوب لبنان كمخابئ لإطلاق الصواريخ، مطالباً اللبنانيين بمغادرتها تمهيداً لقصفها، تزامناً مع تصعيد غاراته على مناطق واسعة. وفق كلام الناطق بلسان جيش الاحتلال دانيال هغاري سيشهد لبنان ربما في الساعات القريبة، قصفاً أكثر عنفاً، وطلب من الناس الإجلاء.
هي استراتيجية قديمة جديدة، وما أشبه اليوم بالأمس، تشابه حرب نتنياهو اليوم، الحرب التي أعلنها مناحيم بيغن على الثورة الفلسطينية في تموز العام 1981، شهدت تلك الحرب غارات جوية دموية، ارتفع أعداد الشهداء من المواطنين والمناضلين الفلسطينيين واللبنانيين بشكل مأساوي، نسبة عالية منهم من الأطفال والنساء، وبتبريرات واهية عن استهداف قيادات عسكرية أو سياسية بالاغتيال، يكون المدنيون هم أهداف رئيسية تسقط سقوف بيوتهم فوق رؤوسهم جراء القنابل الثقيلة.
بلغت هذه الحرب يوم الجمعة 17 تموز ذروة الوحشية والتعطش للدم والخراب لدى حكام إسرائيل، حين أقدمت طائرات أمريكية ـــــــ صهيونية على قصف حي الفاكهاني في بيروت الغربية، بهدف توجيه ضربة في الرأس، كما قال وزير الحرب الإسرائيلي مردخاي تسيبوري لفصيلين رئيسيين من فصائل الثورة الفلسطينية هما حركة فتح، والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين.
اعترفت حكومة بيغن بمسؤوليتها عن العملية الإجرامية التي طالت المقرات القيادية للجبهة الديمقراطية في الفاكهاني، وعندما سئل رئيس حكومة العدو «لماذا استهدفتم مكاتب نايف حواتمة دون غيره؟ أجاب «لقد استهدفنا الرأس الصلب من بين الفلسطينيين».
وقد علقت الصحف الإسرائيلية على الغارة الإسرائيلية على الفاكهاني فأوضحت أن ثمة حساباً طويلاً وعسيراً بين إسرائيل وقيادة الجبهة الديمقراطية التي تتمتع، كما وصفتها الصحافة الإسرائيلية بصلابة سياسية، وتمتلك بنية عسكرية داخل المناطق المحتلة وخارجها، وتلعب دوراً رئيسياً بارزاً في تصلب الموقف السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، فضلاً عن أنها مسؤولة عن العديد من العمليات العسكرية التي طالت تجمعات المستوطنين وقوات الاحتلال، ولا تكف عن لعب دور في تأجيج الهبات الشعبية في الضفة والقطاع عبر مناضليها المنتشرين في المدن والمخيمات.
وكانت إسرائيل قد افتتحت الحرب بغارة جوية استهدفت أحد مواقع المدفعية التابعة للجبهة الديمقراطية بلدة حبوش قرب النبطية في جنوب لبنان. ألحقتها بسلسلة من الغارات طالت مواقع القوات المشتركة اللبنانية ـــــــ الفلسطينية في أنحاء الجنوب كافة، في القواطع الغربي والأوسط والشرقي، وأحراج الناعمة، وغيرها من المناطق.
لم يتوقف تعطش بيغن وعصابته للدم عند حدود بيروت، بل شهدت كل مدن ومخيمات وقرى الجنوب اللبناني والساحل الممتد من بيروت إلى صور، شهدت هجمات على درجة هائلة من العنف، والرغبة الحاقدة في إحداث الخسائر البشرية، كان معظمها من المدنيين، حتى الجسور قصفت أثناء عبور السيارات المدنية، ضرب مناحيم بيغن، فردت عليه قوات الثورة الفلسطينية وحلفاؤها، بضرب المستعمرات الصهيونية بالعمق، أكثر من 28 مستوطنة وموقع صهيوني وصلته صواريخ وقذائف المقاومة، وتحولت تلك المناطق إلى جبهة حرب فلسطينيةـــــــ إسرائيلية، وكان رئيس أركان جيش الحرب السابق مردخاي غور قد دعا في آذار 1978إلى عملية عسكرية شمال نهر الليطاني مؤكداً في الوقت نفسه على أن الحل السياسي هو الوحيد الذي يؤتي ثماره على المدى الطويل، بينما أكد رئيس الوزراء الأسبق رابين أن القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية مستحيل، والغارات الجوية الضخمة لا تحقق هذه الغاية، ولو ألحقت خسائر جسيمة بالفصائل الفلسطينية، بالشكل النظري يمكن اسكاتهم بضعة أيام ولكن ليس بشكل نهائي، ولا لمدة طويلة.
ففي حين تسعى اسرائيل بقصفها شبه اليومي للجسور المرممة أن تحدث إرباكاً واسعاً في خطوط الإمداد والتموين للقوات المشتركة في الجنوب، تدرك تماماً بأن جسوراً أخرى ستقام بمجرد أن يتوقف القصف الإسرائيلي، فلذلك تسعى لأن يشمل أي وقف لإطلاق النار ضبطاً لحركة المقاومة الفلسطينية ـــــــ اللبنانية الوطنية عبر الجسور، وذلك من خلال تسليم الجسور مثلاً للقوات الدولية، وجيش السلطة اللبنانية.
بيغن الذي يشبه نتنياهو بعقليته الفاشية القديمة ـــــــ التي بموجبها ارتكب بيغن وعصابته، منظمة «بيتار»، مذبحة دير ياسين عام 1948ـــــــ راهن على إبادة قوات الثورة الفلسطينية وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء بحيث تختفي القضية الوطنية الفلسطينية، وتختزل المشكلة الفلسطينية إلى مسألة توطين وإسكان وإدارة ذاتية.
خلال هذه المعركة ظهرت واشنطن كوسيط يسعى إلى التهدئة، ووقف إطلاق النار، من خلال تنقلات المبعوث الأميركي فيليب حبيب في المنطقة، محاولاً تجيير قذائف مناحيم بيغن لصالح مشروع تسوية وفق رؤية هنري كيسنجر الذي يفضل حل المشكلات المعقدة «على الساخن»، أي والمعارك محتدمة، وتهدف إلى مكافأة العدوان وليس وقفه، كما تهدف إلى تكريس الدور الأميركي في لبنان، وفي إطار البحث عن تسوية للمشكلة اللبنانية على حساب تراجعات من الثورة الفلسطينية، تعزز عملياً المواقع الإسرائيلية وتضعف قدرات المقاومة على مواجهة الحلقة القادمة من «الأزمة والحل»، أي أن الوسيط الأميركي يسعى أن يحقق لإسرائيل ما عجزت وستعجز عن تحقيقه عسكرياً. فالمواجهة التي تخوضها الثورة الفلسطينية وحلفاؤها الوطنيون اللبنانيون اتخذت أبعاداً مأساوية على الصعيد الإنساني، والحلف المعادي الأميركي ـــــــ الإسرائيلي يسعى إلى نقل المأساوية إلى الصعيد السياسي.
كانت الاحتمالات للوصول إلى تهدئة لا تبدو قوية، فالعدو الصهيوني أعلن أكثر من مرة بأنه لن يوقف اعتداءاته إلا إذا تم إخراج العمل الفدائي من لبنان.
وهدد القادة الصهاينة بمواصلة التصعيد، رفائيل ايتان رئيس أركان جيش الحرب الإسرائيلي هدد باستعمال أسلحة جديدة ضد المقاومة الفلسطينية، ولم يستبعد احتمال الحملة العسكرية البرية الواسعة، مضيفاً أن "لدينا جيشاً كبيراً قوياً ومتطوراً لم يعط كلمته الأخيرة بعد في هذه الحرب".
وإزاء هذه الغطرسة المنفلتة من عقالها، وإزاء عدو ماض في حربه وأهدافه التصفوية، وحليف أمريكي يقدم له كل التغطية السياسية، وأنظمة عربية غارقة حتى أذنيها في التواطؤ، ما كان أمام الثورة الفلسطينية إلا خياران في آن واحد، أن تقلل من خسائر وآلام الشعبين اللبناني والفلسطيني، وتحافظ على مواقع الثورة، وحقها المشروع في مواصلة نضالها والعمل لانتصار حقوق شعبها الوطنية.