الكاتب: دوسلدورف / أحمد سليمان العمري
مع اقتراب فجر الأمس، ومع تسارع الأنباء من مختلف المصادر، تأكَّد لنا نبأ استشهاد «يحيى السنوار»، رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية «حماس» في قطاع غزّة.
هذا القائد الذي قضى حياته في النضال والمقاومة، يضيف باستشهاده فصلا جديدا إلى ملحمة النضال الفلسطيني المستمرّة منذ عقود.
السنوار لم يكن مجرّد قائد عسكري، بل كان رمزا للتحرّر الوطني الفلسطيني؛ عاش حياته ملتزما بتحقيق العدالة والحرية لشعبه. ومن رحم الفقر والمعاناة، صعد هذا القائد ليغدو من أبرز رموز الكفاح الوطني، وعلى الرغم من استشهاده، فإن إرثه سيظل خالدا في ذاكرة الشعب الفلسطيني والعربي الذي لطالما وجد فيه وأمثاله مصدر إلهام ودافع للاستمرار.
من خان يونس إلى قمة القيادة
وُلِدَ يحيى السنوار في عام 1962 في مخيم خان يونس للاجئين في جنوب قطاع غزّة. كان هذا المخيم شاهدا على معاناة آلاف العائلات الفلسطينية التي هُجِّرت قسرا من أراضيها بعد النكبة عام 1948. لم يكن السنوار استثناء، فقد عاش طفولته في ظروف قاسية من الفقر والتهميش، وفي بيئة كانت تمتلئ بالحكايات عن العودة والحرية.
هذه المعاناة لم تكن سوى وقودا لأفكار السنوار في المقاومة والنضال، حيث كان يدرك منذ نعومة أظفاره أن الطريق نحو الحرية مليء بالتحديات.
منذ سنواته الأولى، شارك السنوار في أنشطة وطنية واجتماعية، حيث انخرط في الحركات الطلابية الفلسطينية التي كانت تُعبِّر عن الرفض للاحتلال الإسرائيلي، وتدعو لتحرير فلسطين. هذا النشاط المبكر كان بمثابة الخطوة الأولى نحو انضمامه لحركة «حماس» بعد تأسيسها في عام 1987. خلال هذه الفترة، كان الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزّة يشهد انتفاضة شعبية كبيرة ضد الاحتلال الإسرائيلي، مما زاد من تأثير الحركات الإسلامية والوطنية على الشارع الفلسطيني.
النضال العسكري وتأسيس كتائب القسَّام
بعد انضمامه إلى حركة حماس، أصبح السنوار من أوائل الذين تبنوا الفكر المقاوم الذي يدعو إلى الكفاح المسلّح ضد الاحتلال. سرعان ما برز السنوار كأحد القادة الشباب بفضل قدراته التنظيمية والعقل الاستراتيجي الذي يتمتع به، ومن خلال دوره القيادي، ساهم السنوار في تأسيس كتائب الشهيد «عز الدين القسَّام»، التي تعتبر اليوم الذراع العسكرية لحركة حماس.
كان السنوار مؤمنا بأن المقاومة المسلّحة هي السبيل الوحيد لاستعادة الحقوق الفلسطينية المسلوبة، وقد أظهر قدرة فائقة على تنظيم العمليات العسكرية ومواجهة الاحتلال.
خلال فترة تأسيس كتائب القسَّام، تمكَّنت الحركة من بناء قاعدة عسكرية صلبة، حيث أصبحت الكتائب مع مرور الوقت قوة عسكرية معترف بها ليس فقط على الصعيد الفلسطيني، ولكن أيضا في معادلة الصراع الإقليمي.
دور السنوار في تطوير هذه القدرات العسكرية كان حاسما، حيث كان يعمل على تعزيز المقاومة بالعتاد والخطط الاستراتيجية، ما جعل الاحتلال الإسرائيلي ينظر إليه كأحد أخطر قادة المقاومة.
الاعتقال والسجن: فترة صقل العزيمة
في عام 1988، ألقت قوات الاحتلال الإسرائيلي القبض على السنوار وحكمت عليه بالسجن مدى الحياة أربع مرّات؛ أمضى منها 24 عاما في السجن بتهمة تنظيم عمليات مسلّحة ضد أهداف إسرائيلية.
رغم وجوده خلف القضبان، لم يتراجع السنوار عن مبادئه، بل استمر في دوره القيادي داخل السجون الإسرائيلية، وقد قضى ما يقارب 24 عاما في سجون الاحتلال، وكانت تلك الفترة بالنسبة له فرصة لتعزيز صموده وإلهام زملائه الأسرى.
خلال فترة سجنه، كان السنوار يشكل قدوة للأسرى الآخرين، حيث لقّبوه بـ «شيخ المجاهدين»، واستمر في توجيه القادة الشبان والمقاومين حتى من داخل زنزانت، ورفض أي محاولة من الاحتلال لإضعاف عزيمته، وظل متمسكّا برؤية المقاومة كخيار وحيد لتحرير فلسطين.
تحريره وصفقة شاليط
في عام 2011، تم إطلاق سراح السنوار ضمن صفقة تبادل الأسرى الشهيرة التي عرفت بـ «صفقة شاليط»، وهي واحدة من أكبر صفقات التبادل بين حماس وإسرائيل، والتي تم بموجبها الإفراج عن أكثر من ألف أسير فلسطيني مقابل الجندي الإسرائيلي «جلعاد شاليط».
هذه الصفقة أعادت السنوار من معتقل لدى إسرائيل إلى زعيم مقاومة، حيث موقعه الطبيعي كقائد لحماس في غزّة، ليعود إلى إلى العمل السياسي والعسكري على حد سواء.
عودته كانت بمثابة بداية جديدة في مسيرته النضالية، حيث عمل على تعزيز صفوف المقاومة وتطوير قدراتها في وجه التحديات المتزايدة.
القيادة السياسية بعد التحرير
بعد إطلاق سراحه، عاد السنوار ليشغل مناصب قيادية في الحركة. وفي عام 2017، انتُخب رئيسا للمكتب السياسي للحركة في قطاع غزّة.
هذه الفترة كانت مليئة بالتحديات، فقد كان القطاع يعاني من حصار خانق، إلى جانب تصاعد التوترات مع الاحتلال الإسرائيلي، إلّا أن السنوار أظهر براعة في المزج بين العمل العسكري والسياسي، حيث قاد مفاوضات مع عدة أطراف دولية وإقليمية بهدف تخفيف الحصار عن غزّة دون تقديم أي تنازلات تمس بالمبادئ الأساسية للمقاومة.
رؤية إسرائيلية للسنوار
من وجهة نظر الاحتلال الإسرائيلي، لم يكن يحيى السنوار مجرّد قائد عادي في حماس، بل كان يُعد «العدو الأول» بالنسبة لهم، فقد كان السنوار يمثّل تهديدا مباشرا لإسرائيل، حيث وصفه العديد من القادة العسكريين الإسرائيليين بأنّه «عقل استراتيجي» يتمتع بقدرة هائلة على التخطيط والتكتيك، فكانت عمليات المقاومة التي شارك في تنظيمها تثير الخوف والهلع والقلق لدى الدوائر الأمنية الإسرائيلية.
لقد وصف الجنرال السابق ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي «غادي آيزنكوت» السنوار بأنه «خصم ذكي» و«قائد يمتلك رؤية استراتيجية»، مشيرا إلى قدرته على إدارة العمليات العسكرية بفعالية واستغلال نقاط القوة لدى حماس.
كما تحدث وزير الدفاع الإسرائيلي السابق «بني غانتس» عن السنوار باعتباره «عقل المدبّر» للعمليات العسكرية لحماس، مؤكّدا أنّه يتمتع بقدرة فائقة على التنظيم وإدارة الأزمات. ومن جانبه، أشار رئيس أركان الجيش الإسرائيلي «أفيف كوخافي» إلى أن السنوار يلعب دورا محوريا في تعزيز قوة حماس العسكرية، ويعتمد على استراتيجيات مبتكرة لمواجهة التحديات. كما اعتبر وزير الدفاع الإسرائيلي الحالي «يوآف غالانت» السنوار شخصية بارزة في الساحة الفلسطينية، موضحا أن تفكيره الاستراتيجي يمثل تحديا كبيرا لإسرائيل.
بالإضافة إلى ذلك، أشارت العديد من التقارير الاستخباراتية إلى أن السنوار يتمتع بذكاء عاطفي عال وقدرة على التأثير في الجماهير، مما يجعله شخصية مهمة في الحركة الفلسطينية والمواجهة مع إسرائيل.
الاستشهاد والرمزية القتالية
استشهاد يحيى السنوار يمثل هزيمة نفسية لإسرائيل رغم النصر العملياتي الذي قد تحاول تصويره، فوفقا للرواية الإسرائيلية غير الرسمية، استشهد السنوار في مواجهات مباشرة مع قوَّة إسرائيلية في تل السلطان بمدينة رفح، ولم يكن مختبئا في نفق كما ادعى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. هذا الأمر يضرب السردية الإسرائيلية التي كانت تحاول تصويره كقائد هارب أو مختبئ، إذ إنه مات وهو يقاتل بسلاحه في يده، مما يمنحه بطولة إضافية ويعزِّز رمزيته كشخصية مقاومة حتى اللحظات الأخيرة.
إرث يحيى السنوار
في المجمل، يمثّل يحيى السنوار رمزا للثبات والمقاومة الفلسطينية في عصر تتزايد فيه التحديات، إذ يجسّد نضاله ومواقفه الثابتة دفاعا عن القضية الفلسطينية، ويدل على إرادة شعب يرفض الاستسلام.
لقد أصبح السنوار ليس فقط قائدا عسكريا، بل رمزا يُلهم الأجيال القادمة في سعيها لتحقيق الحرية والعدالة لتحرير فلسطين ومُقدّساتها.
ستبقى ذكراه خالدة في قلوب الفلسطينيين والعرب، وستستمر إرادته النضالية في إلهام الأجيال القادمة للتمسّك بحقوقهم. إن استمرار صموده وعزيمته في وجه الاحتلال طوال سنوات نضاله يعكس الأمل المتجدد في تحقيق الحلم الفلسطيني والعربي، مما يجعله شخصية محورية في التاريخ الفلسطيني والعربي والإسلامي المعاصر.
يحيى السنوار، بكل ما يمثّله، هو شهادة على أن القضايا العادلة لا تموت، ومعها تحرير فلسطين التاريخية، مما يثبت أن العزيمة والإصرار يمكن أن تُحدثا تغييرا حقيقيا في وجه الظلم المُتمثّل باحتلال فلسطين والتنكيل بأهلها.
وقد بشر الله سبحانه وتعالى أولئك الرجال في الآخرة فقال: «رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْه»، كما قال تعالى: «وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِم يُرْزَقُونَ».
إنّا لله وإنا إليه راجعون في شهيد الأمّة العربية والإسلامية