الكاتب: جمال زقوت
بعد أكثر من عام على حرب الإبادة، و ما اتسمت به من وحشية غير مسبوقة منذ الحربين العالميتين، حيث توافقت البشرية حينها على ما بات يعرف بالقانون الدولي، في محاولة لمنع تكرار ما نجمَ عنهما من جرائم ضد الإنسانية، فإن حكومة العنصرية الفاشية في تل أبيب تواصل إرتكاب ليس فقط ما يمكن تسميته بالمحرقة في قطاع غزة المدمر من كل مناحي الحياة، بل وتدوس بالسلاح الأمريكي ما كان يسمى بقانون الحرب، وقواعد القانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني.
فبعد ما زرعته طائرات ودبابات الموت من دمار وقتل طال البيوت والمدارس والمستشفيات والجامعات والبنى التحتية المدنية وقتل ما لا يقل خمسين ألفاً وإصابة أكثر من مئة ألف من المدنيين غالبيتهم من الأطفال والنساء، انتقلت عصابات الارهاب الفاشية بتعليمات الهارب من التاريخ نتنياهو لتنفيذ ما يعرف بخطة الجنرالات بدءاً من شمال قطاع غزة في محاولة لاجتثاث الوجود الفلسطيني بالتطهير العرقي لهذه المنطقة المنكوبة.
محرقة في جباليا والشمال
فما تظهره بعض الصور النادرة، بعد أن استهدفت حرب الإبادة عيون الصحافة بالقتل والتصفية، يؤكد أن ما يجري تنفيذه في شمال القطاع هو المحرقة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، حيث لا تكتفي عصابات الارهاب الصهيوني بإلقاء القذائف الضخمة والبراميل المتفجرة الفتَّاكة على بيوت الصفيح المتآكلة في مخيم جباليا، بل وتشعل النيران في ركامها، بعد أن تقتل وتعتقل الشباب والرجال، وما تيسر لهم من الأطفال والنساء، وكي تذر الرماد في العيون التي ترفض رؤية الحقيقة، تجبر النساء على الرحيل نحو الجنوب، مُدَّعيةً فتح ممرات آمنه لهن، ليواجهن الموت بالعطش والجوع الناجم عن الحصار المطبق، إن لم تلاحقهن صليات رصاص الغزاة .
شبح حرب شاملة للتعتيم على التطهير العرقي
هذه الجريمة المعلنة على رؤوس الأشهاد، تجري على قدم وساق ..ساعة بساعة.. ويوم تلو الآخر، دون أن يحرك العالم ساكناً، وكأن نتانياهو اليائس من تحقيق نصره الدموي على أهل غزة ومقاومتهم، يعلن انتصاره على العالم، و ما يعرف بمؤسساته الدولية و إرث القانون الدولي الذي يجري الفتك به في أزقة جباليا ومخيمها وبيت لاهيا ومزارعها. هذا في وقت يبلع قادة ما يُسمى بالعالم الحر، و في مقدمتهم بايدن وفريق أركانه، ألسنتهم ويواصلون مدّ الجريمة والمجرمين بوقود المحرقة، بينما نشهد صمتاً عربياً وإسلامياً بعد أن ألقى نتنياهو قنبلة دخان التعتيم على محرقته، بمحاولة دفع المنطقة إلى حرب شاملة مع إيران كي يضمن صمت وانحياز أنظمة المنطقة التي تتوهم الخطر عليها من ايران، وليس من التوسعية الصهيونية العنصرية، التي تخوض حرب السيطرة على مجمل المنطقة ومواردها الطبيعية.
الحاجة الوجودية للوحدة
عام وأكثر على جريمة العصر، والتي يمكن تعريفها بالكارثة التي تفوق النكبة، ذلك ليس فقط بقياس حجم الموت والدمار الذي يواجهه شعبنا في محرقة الإبادة والتهجير، بل وأيضاً في مدى الإصرار على ترك غزة تغرق وحيدة في بحرها، أو تحترق في لهيب نيران القذائف الأمريكية التي تسقط على رؤوس وبيوت وخيام أهلها، بل وفي عناد غير مسبوق حد التخلي عن أنين الأطفال وصرخات النساء، برفض الاستجابة لنداء الإرادة الشعبية والإجماع الوطني، والذي كانت محطته الأخيرة اتفاق بكين لوحدة المواجهة وانقاذ المصير الوطني، الذي و رغم موافقة جميع الفصائل دون استثناء، وفي مقدمتهم حركتي فتح وحماس، إلا أنه بقي حبيس الأدراج، رغم الحاجة الوجودية لتنفيذه . كما إستمر الرهان على إدارة بايدن، و على أوهام تسوية لم يبق من ركامها سوى مخططات الضم والاستيطان والارهاب التي تسير على قدم وساق في أزقة مخيمات وقرى وبلدات ومدن الضفة تزرعها بالموت، و تستولي على مصادر حياة الفلسطينيين في سائر أنحاء الضفة المحتلة، وفي مقدمتها القدس.
الاستسلام ليس خياراً
وسط هذه الإبادة -الكارثة المتجددة- بفعل الصمت والإصرار على تغييب نداء الوحدة الذي تطلقه نساء وشباب وشيوخ مخيم جباليا .. مخيم الشهداء والثورة والانتفاضة والمقاومة الباسلة دفاعاً عن الوجود والحلم الوطني الفلسطيني . فإن شعب فلسطين وبفطرة لاتخطئ، يدرك تماماً أن الاستسلام ليس خياراً. فمهما اشتدّت حبال الكارثة حول عنق مصيره الوطني، فليس أمامه سوى الدفاع عن هذا المصير في أرض الآباء والأجداد. وهذا ما ورثه لهم الشهيد الكبير والقائد الوطني أبو إبراهيم ومن سبقه من الشهداء، في مشهدية بطولةٍ نادرة استحضرت محطات تاريخ المقاومة المجيدة من جبال يعبد القسام قبل تسعين عاماً إلى قسطل عبد القادر الحسيني عشية النكبة. إنها ثلاثية استمرار تاريخ صراع البقاء والمقاومة من أجل الحرية والكرامة الوطنية. فليس أما شعبنا سوى المضي قدماً في مسار تحويل ما يراد لنا من تيه الكارثة إلى مجد بطولةٍ تنتزع النصر وتستحق جدارة الحياة .