الأربعاء: 30/10/2024 بتوقيت القدس الشريف

أبي، الملك حسين وغلوب باشا (ابو حنيك)

نشر بتاريخ: 30/10/2024 ( آخر تحديث: 30/10/2024 الساعة: 15:17 )

الكاتب: د. محمد عودة

إسم ابي عامر، وعلى راي المثل لكل من اسمه نصيب، كان عقل ابي عامر بالوعي والحكمة ا وقلبه عامر بالإيمان، لعطف والحنان، ورغمانه لا يقرأ ولا يكتب الا انه كان يملك سمعا حادا وبصيرة ثاقبة،اليوم وبعد مرور ما يزيد على ثلاثين عاما على رحيله الى عالم الخلود استعيد من ذاكرتي بعض من حوارات قليلة دارت بيننا عندما كنت اعود من مدرستي مرهقاً ومثقلا، في الصيف عرق يتصبب وفي الشتاء ملابس خفيفة ورثة يضاعف المطر والاوحال من وزنها.

عند قراءة هذا المقال ستجدون الكثير من أسماء شخصيات ووثائق بعضها معروف والبعض الآخر ربما يعرفه المؤرخون ومن اجل الا أقحم قرائي مشقة البحث عن الشخصيات والوثائق فإنني اتعهد ان بقيت حيا ان اتناول الشخوص والوثائق بالتفصيل في مقالاتي القادمة حتى أسهل على من يتابعني.

في عام 1965 زار ملك الأردن مدرسة دورا الثانوية للبنين (مدرسة دورا التي تضم كل المراحل وبناها عبد الله كردوس عام 1937 وهي تطل على الساحل رغم بعد المسافة) قبل موعد الزيارة بيوم أبلغناالمدير بان علينا ان نأتي في اليوم التالي مُرتدين أجمل ملابسنا وبيد كل منا علم المملكة،

يومها طلبت من والدي ان يشتري لي ملابس تليق بالحدث وعلم المملكة حتى وان كان ورقياً وطلبت منه ان يأتي معي، كان رده صادما لطفل في مثل سني، ما معي اشتري لك ملابس جديدة ولا حتى علم، اما بخصوص المشاركة فانا يا ولدي لا أشارك ربيبة أبو حنيك الانجليزي في شيء.

ذهبت في صبيحة اليوم التالي مكسور الخاطر، فكل اقراني بملابس جديدة وانا ملابسي رثة مرقعة وحافي القدمين، ومع ذلك كنت فرحا بأنني سأرى الملك وربما اُصافحه خاصة وانني كنت من المتفوقين في صفي وقد يُطلب مني إلقاء كلمة ترحيبية وهكذا أحظى بالسلام عليه (لقد اعتاد اساتذتي تكليفي بإلقاء كلمة الصباح حتى ان استاذي ويدعى محمود النمورة استخدم احدى كلماتي في واحد من أشهر كتبه وارفق صورة قُصاصة الورقة التي كنت قد كتبت الكلمة عليها في تلك المرة.

عندما وصلت استبعدني الاستاذ المشرف على صفي قائلا ملابسك لا تليق بجلالة الملك ،لن انسى ما حييت أوجه ذلك الأستاذ ولا اسمه ،انه الأستاذ يوسف عبد العزيز عمرو وكان من خيرة الأساتذة اكاديميا ،اعتقد انه كان ينتمي لحركة الاخوان المسلمين،، غضبت كثيراً وعلى غير عادتي شتمت ولعنت وزمجرت، وغادرت لابتعد عن المكان وربما مر بمخيلتي العودة الى البيت ،ولحسن حظي هناك مقام النبي نوح ملاصق للمدرسة يشرف عليه رجل اصوله من الهند، لم ابكي لكن عيوني كانت مليئة بالدمع حزن الرجل الهندي عندما رآني و تعاطف معي وسمح لي بالصعود على قبة المقام لأرى أفضل مما سيرى زملائي، شكرا لذلك الرجل الطيب الذي اشعرني ان الملابس الرثة وسام شرف.

بعد مغادرة الملك صحبة اعيان المحافظة اذكر من بينهم الشيخ الجعبري، صُرفنا الى بيوتنا، عدت الى البيت بشعور امتزج فيه الفرح بالحزن، لقد شاهدت الملك بوضوح ولكن من بعيد كالمنبوذين بذنب لم اقترفه وهو الفقر.

طوال طريق العودة كنت اتخيل أسئلة والدي واحاول إيجاد إجابات عليها، لم يكن في البيت، عندما عاد وقبل ان يراني كانت تعابير وجهه تشي بحاله، لقد كان حزينا ومتجهم الوجه، عندما رآني تبدل الحال وغطت وجهه ابتسامة لكنها حزينة.

ناداني واحتضنني للمرة الأولى في حياته، تعال يا بني( أخرفك) احكيلك قصة الملك، اول شيء الملابس لا تصنع الرجال وان لم اشتري لك فلأنني لا املك ثمنا وليس بسبب زيارة ملك او امير،خليني احكيلك عن دور الإنكليز- الذين ربي الملك في كنفهم - في كل مآسينا، كمبل بدو يهجر اليهود على فلسطين وبلفور يعطيهم وطن والملك جورج الخامس يحمي الوطن الموعود بدولة عازلة،ونستون تشرشل يؤكد على وعد بلفور، تقرير لجنة مستر بيل اكد على ان الأرض بالأصل لليهود وهنا توقف وردد مقطع من اغنية دبرها يا مستر دل ولا اعرف ما هو الرابط بين بيل و دِل؟، والكتاب الأبيض وجيرارد بيك وخليفته جون باغوت كلوب الذي اشرف على تربية الملك وهو من وافق على الهدنة الأولى عام والتي كانت سبب من أسباب هزيمة الجيوش العربية1948.

نهض ابي ليصلي وطلب مني ان أبقي مكاني حتى يعود، في الاثناء ناولتني امي الصّبّوحة صانعة شخصيتي كِسرة خبز وقطعة جميد اكلتهما اثناء صلاته وانا أتساءل ما فائدة كل ما يقوله ابي وهل كل ذلك لمواساتي؟ عاد مسرعا ودون سابق انذار أكملحركة الضباط الاحرار أبو شلحوت والهندي والروسان وأسماء كثيرة لم احفظها.

صمت ابي لحظة ثم استطرد قائلا ما بحرث الأرض الا عجولها،عندها تجرأت وسالت من اين لك كل هذه المعرفة وانت لا تقرأ ولا تكتب؟ ضحك ودون تردد أجاب انا احلل كل ما اسمعه من الإذاعات العالمية، بي بي سي، مونتي كارلو، صوت العرب وغيرها وبعدها اُحكِم عقلي والمنطق، ثم أردف لا تنسى ان ثلاثة من اخوتي شهداء الوطن وكلهم استشهدوا على يد أبو حنيك (جون باغوت كلوب).

اليوم ورغم كل التكنولوجيا ورغم المعرفة التي املك، الا انني لا الم بكل خيوط المعرفة التي رواها والدي، ولحسن حظي ان عامر الوالد يتكرر في عامر الابن فرغم انه بصدد انهاء انجاز رسالة الدكتوراه بعد ان انجز البكالوريوس والماجستير وفوقهما معهد القضاء الا ان لديه من فطنة جده وقدرته على الحفظ مما يجعله حالة استثنائية من الالمام وفي شتى المجالات، الرحمة لوالدي وطول العمر لولدي الذي يسير على خطى جده.

خلال فترة وجيزة سأكتب ما يبدد شكوكم ويجيب على تساؤلاتكم حول كل ما ورد في هذا المقال