الكاتب:
وليد هودلي
في زيارتنا لأحد المعتقلين المحرّرين حدّثنا عن سجّان فاجأه وهو مشبوح ومعصوب العينيين بسكب وعاء من الماء المغلي في ظهره من الخلف بعد أن رفع قميصه، ثم جاء آخر وأتبعه بوعاء بارد، شهر بعدها لم يذق للنوم طعما ودون أيّ علاج، وفوجئنا من أسيرة اسرائيلية كأنت تزجي وقتها المملّ بلعب الشطرنج مع سجّانها الفلسطينيّ أو تلك التي كانت تلهو مع كلبها وسُمح لها بالاحتفاظ به في رواية، ورواية ثانية أحضروا لها كلبا حسب طلبها رغم الحرب الطاحنة التي تدور حولهم.
ما بين الفقرة التي يوصي بها فارس الطوفان الشهيد يحيى السنوار بخصوص الاسرى الذين لدى المقاومة وكيف تُرجمت هذه الوصيّة بحسن الرعاية وتجلّي الاخلاق العالية للآسر على الأسير، وما بين توصيات ما يُسمّى وزير الامن القومي ابن غفير بخصوص معتقلينا في سجونهم وكيف تمّت ترجمتها إلى جحيم وجهنّم واختر منهما ما تشاء، لا مقارنة أبدا وإذا أردنا أن نحسب المسافة بينهما فقد تتجاوز السنة الضوئية.
ذلك أوّلا أنّ النبع الصافي الذي ارتوى منه السنوار ومن معه هو القرآن الكريم الذي يعطي للإنسان كرامته مهما كان لونه أو عرقه أو دينه بشكل عام فكيف به إن كان أسيرا ضعيفا قد وقع في قبضة مؤمن يراعي هذه التعاليم القرآنيّة؟ فالأخلاق هنا في جوهر هذا الانسان ولا تنفكّ عنه أبدا في كلّ سياساته وتصرفّاته وهي التي تحكم سلوكه سواء كان ضعيفا أو قويّا.
بينما ذاك الذي تلبّسته عقد توراتية محرّفة، مع عقد تاريخيّة جعلت منهم كتلة بشرية متعصّبة متطرّفة عنصريّة حاقدة، ثمّ تلبّسته الفكرة الصهيونية العنصريّة والتي امتطتها الصليبية الغربية لتستخدمها كأداة وظيفيّة رخيصة، هناك فرق شاسع في المرجعيات الدينية والفكرية والتاريخيّة والتربوية والثقافيّة، هنا لا يمكن أن تمتّ للأخلاق الانسانيّة بأية صلة ولا يمكن لها إلا أن تنتج التوحّش وقتل الروح الانسانيّة والاعتداء على كلّ مكوّناتها خاصّة إذا ملكت قوّة وأُتيحت لها فرصة.
بالفعل يحتاجون لأكثر من سنة ضوئية ليصلوا ما وصلت إليه الثقافة الانسانيّة هذا عدا عن وصولهم إلى الثقافة الاسلاميّة التي تحكم سلوك من وقع أسراهم بأيديهم، فما بين ما هم عليه من ثقافة فاشيّة وثقافتنا مسافة واسعة، سنة ضوئية تفصلنا عنهم هذا إن استطاعوا وإن أرادوا أن يتحرّروا من آصار وأغلال كثيرة وعميقة في نفوسهم، وأنّى لهم أن يتحرّروا من تحريفات آلاف السنين التي جرت على كتبهم التي لم يعد لها بأية صلة في السماء، هل ما يفعلونه يرضي ربّ السموات والأرض التي أقامها على القسط والعدل ولا يمكن لأي انسان يملك عقلا سويّا أن يتصّور أنّ هذا الربّ العظيم يميّز بين من خلقهم على أساس عرقهم وجيناتهم الوراثيّة، هم يعتبرون أن الربّ أعطاهم ما لم يعط أحدا من العالمين وجعل من خلق من البشر غيرهم (الأغيار) خدما لهم. فكم من الزمن يحتاجون للانتقال من الثقافة الدينية العنصرية إلى الثقافة الدينية التي تعدل بين البشر؟
وكم يحتاجون من الزمن حتى يتحرّروا من العقد التاريخيّة التي تلبّستهم كثيرا على مرّ التاريخ، حتى يحرّروا أنفسهم من التربية التي نشأوا عليها والتي رسّخت في نفوسهم أنّهم منبوذين ومضهدين على مرّ التاريخ من قبل كلّ شعوب الأرض وأنّ السبب وراء اضطهادهم أنّهم يهود، وهذا رسّخ في أعماقهم بأنهم الضحيّة في هذا العالم، فلا بدّ من أن تكون قويّا وقادرا على أن تكون فوق غيرك وأن تنتقم من غيرك شرّ انتقام لأنك إن لم تفعل ذلك فهم سوف يفعلون بك ما فعله أجدادهم ، وهذه بالضبط عقدة الضحيّة التي حوّلتهم إلى جلاد، وفي المسألة الفلسطينية المشكلة أنّهم جاءوا ليضطهدوا من الفلسطينيين بدل النازيّة التي اضطهدتهم، حيث أن الفلسطيني لم يكن له ناقة ولا بعير في هذا الظلم الذي وقع عليهم، وهذا قمّة الخسّة والنذالة التي جعلتهم ينفّسون عقدة الضحيّة في الفلسطينيين بعيدا عن الذي كانوا ضحيّة له.
وهذا ما يفسّر حالة التوحّش التي تشهدها سجونهم، خلعوا كلّ أرديتهم السابقة رغم سوئها وباتوا مكشوفين على الملأ حسب ما تحمله نفوسهم النّكدة، فهل تجد من البشر من يحوّل أسراه إلى هياكل عظمية، هل تجد من تبلغ إهانة البشر عندهم أن يجبروهم على السّير كما تسير الدواب وأن يوضعوا في أقفاص دون أغطية حيث برد الصحراء المعروف بقسوته الصارخة، وأن تقطع أطرافهم بعد أسابيع من القيود البلاستيكية الضاغطة بكلّ شدّة، واستخدام الكلاب المتوحّشة بكلّ أنواع التعذيب، وحجب الادويّة الضرورية عن ذوي الامراض المزمنة مما أدى إلى استشهاد كثيرون، هم باختصار فتحوا جبهة دموية على المدنيين في غزّة بكل وحشية عرفتها ولم تعرفها البشرية وبموازاة ذلك فتحوا السجون كمسلخ أو مدفن للاحياء لا همّ لهم إلى الابداع بكلّ صنوف التعذيب التي لم تعرفها البشرية المتوحّشة من قبل.
في حين كان لأسراهم ما تمّ تسريبه ممن أُفرج عنهم وما رآه الناس على وجوههم حتى وصفت مذيعة إحدى الاسيرات بأنها خارجة من صالون كوافير، وتلك التي احتفظت مع مدلّلها الكلب فترة أسرها، شتان بين المعاملتين، مسافة شاسعة قد تصل إلى سنة ضوئية هي ذات المسافة بين أخلاقنا وأخلاقهم.