الكاتب: أ.صخر سالم المحاريق
أكاديمي ومُختص في التنمية المُستدامة والموارد البشرية.
عُرفت الجامعات منذُ نشأتها كمؤسساتٍ للتعليمِ العالي بأنها منبعُ "المعارف والمهارات" النظرية والتطبيقية، ومصنعُ الموارد البشرية المُؤهلةِ، والمُدربة، والكفؤة، وهي المرحلة الدراسية التي تلي التعليم الأساسي المُتمثل بالمدرسة ومراحلها المُختلفة الابتدائية، والإعدادية، والثانوية، كما تمثلُ الجامعة نُقطة البداية لخارطة الطريق التي ستنطلق من خلالها نحو بناء مُستقبلك لتشقَ مسيرتك المهنية.
فالجامعة تختلف عن المدرسة كثيراً، لأنك أنت صاحب القرار الأول والأخير في تحديد المُستقبل الذي ينتظرك حين الالتحاق بها والمُتمثل في اختيار تخصصك وبالتالي مهنتك، وهُنا لا بُدَ من الإشارةِ إلى أمرينِ ضروريينِ يتمثلانِ في الدور الجوهري للجامعات في مُجتمعاتها وهُما الأول: "التكوين المعرفي" للطلبة المُلتحقين بها من خلال بناء مجموعة المعارف النظرية المُتخصصة لهُم، وصقل المهارات التطبيقية الاحترافية التي يحتاجونها، وأما الثاني: "فالتكوين المهّني" السليم لهُم ليكونوا أكثر قُدرة على تطبيق تلكَ المعارف والمهارات حين مزاولة أعمالهم المُستقبلية؛ وهُنا يتحقق ذلك الدور الأساسي للجامعات في بناء وتطوير الكوادر البشرية وتأهيلها لتحقيق التنمية البشرية التي تسعى لها، والتي تعدُ بمثابة المُحرك الأساس لأشكال التنمية المُستدامة الأخرى وخاصة الاقتصادية والاجتماعية منها.
ناهيك عزيزي القارئ عن الأدوار الأخرى المنوطةِ بالجامعات والمُتمثلةِ بالإنتاج المعرفي والبحثي المُوجه هو الآخر نحو التنمية، إضافةً إلى المسؤولية المجتمعية والتي تقع عليها تجاه مُجتمعاتها في دورها (التثقيفي، والتوعوي، والتطويري، والتطوعي، والاستشاري)، لكن السؤال الأهم هُنا والذي تطرحُه المقالة هذه؛ هل الجامعات سواء في تحقيق تلك الأهداف بحيث تُعتبر بمثابةِ مُسلماتٍ وليستْ أدوار افتراضية تقع على عاتقها؟ وهل أضحى التعليم في بلادنا العربية تعليماً نحو اللاتنمية !؟
الإجابة طبعاً (لا) ... فالجامعات ليست سواء في ذلك، وهذه هي الحقيقة التي يخشى قولها الكثيرين، وأقتبس هُنا لتوضيح ذلك من قول الكاتبة فرح مُصطفى في مقال لها على موقع الجزيرة نت بعنوان: قالوا لنا عن الجامعة " لم تكن الجامعة كأحلامي الوردية الطُفولية، لم تكُن ككل الكلام الذي قيل، تغيرت كثيراً عما تعرفون، هي ليست مذنبة، إنما نحن المذنبون" وأردفت بالقول أيضاً: " علمت أن التعليم أصبح ربحياً، الغاية الوحيدة خلفه هي جني المال، وكأنما الجامعة تحولت من صرح تعليمي إلى مُؤسسة تجارية هدفها الأول الربح المادي، وتفادي الخسارة ".
وهُنا بيتُ القصيد كيف بالجامعات أن تبني معارف طلبتها ومهاراتهم، وجودتها الأكاديمية، خاصةً في بلادنا العربية وهي نفسها من تنازلت عن معايير الجودة والسُمعة الأكاديمية لصالح الربح المادي كما قالت الكاتبة مُصطفى، كيف بها أن تبني معارف ومهارات طلبتها بمعدلات قُبول وتسجيل مُتدنية لتزيد من عدد مُلتحقيها كماً لا نوعاً وكأنَ لسان حالها يقول: "من دخل بيت أبو سفيان فهو آمن"، كيف بها أن تبني معارف ومهارات طلبتها وهي تطرح تخصصات لمجرد شكلٍ لا مضمون وبلا حاجة حقيقية مدروسة في بيئاتها الاقتصادية والاجتماعية، كيف يكون ذلك وهي تلبسها تقليداً للآخرين كأنها موضة مُعاصرة، كيف بها أن تبني مهارات طلبتها وهي في فوضى عارمة في المناهج التي ليست من إنتاجها أو عفى عليها الزمن، وهي في نقص في الأساليب والأدوات والوسائل التعليمية الحديثة والمُعاصرة، وهي في حالة ضعف في المُستوى الأكاديمي لهيئاتها التدريسية، وهي تُقدمُ بحوث وأبحاث منسوخة ومُستنسخة، قيمتها التعليمية والتنموية صفراً تكعيبياً، والحديث في هذا الأمر يطول، كم أن الملام لا يقفُ هُنا على الجامعات والكليات فحسب، بل أيضاً على منظومة التعليم والتعليم العالي برمتها ومعاييرها المُزدوجة والركيكة.
وعليه فهُنالكَ ثلاثة مهارات أساسية عزيزي القارئ الكريم يجبُ على الجامعات أن تصنعها وتبنيها في شكل كفاياتٍ مهنيةٍ فعالة نحو تحقيق مُستقبل مهني أفضل لمُنتسبيها والمُلتحقين بها وهي أولاً: "مهارات فنية" وتُعرف أيضاً بالمهارات التَخصُصِية حيثُ تتمثل في جُملةِ المعارف والمهارات النظرية والتطبيقية في مجال الاختصاص، ومجال العمل الوظيفي الذي ستلتحقُ به الخريج مُستقبلاً؛ وذلك من أجل تحقيق مُستوى مُعين ومقبول لدرجة الإجادة والإتقان لذلك الاختصاص وتلك المهنة، ثانياً: "مهارات شخصية" وتُسمى أيضاً مهارات حياتية، والتي تُركز على بناء شخصية الفرد وتنمية ذاتهُ مثل: (مهارات التواصل والاتصال، الإقناع، حل المشكلات، التفكير .. وغيرها)، وأما ثالثاً: "فالمهارات الرقمية" وهي مهارات العصر الحديث عصر الرقمنة وإنترنت الأشياء، وهي تُقسم لمهارات رقمية حياتية روتينية تُساعد الفرد في التعامل مع بيئته ومُتطلبات العصر، حيثُ أن الناس في ضرورة الحاجة لها سواء، ومهارات رقمية تخصصية يحتاجها الخريج أو الفرد في مجال عمله لكي يُواكب التطور التقني الحاصل فيه، ويُنجز مهامهُ بكل كفاءة وفعالية.
خُلاصة القول: ولكي تتمكن الجامعات من بناء تلك المهارات المُستقبلية لدى خريجيها يجب عليها إتباع استراتيجيتان هامتان تتمثلان في: الأولى "استراتيجية الغربلةِ والانتقاء" لطلبتها على أساس كيفي نوعي لا كمي، وبالتالي انتقاء الأفضل وفق معايير قُبول وتسجيل صارمين، وأما الثانية "استراتيجية التكوين المهني السليم" المبنية على بناءٍ معرفيٍ ومهاريٍ سليم قابل للقياس، والتقويم، والتقييم والذي يستندُ إلى المهارات (الفنية، والشخصية، والرقمية) سابقة الذكر، من أجل التأثير في عملية التنمية ومُكافحة شبح البطالة؛ فالتعليم حقٌ للجميع ولكنهُ يجب أن يكون بمثابة سباق تنافسي محطاته القدرة، والموهبة، والمهارة، ولو كان كذلك لما وصلنا إلى حالٍ نحن فيه اليوم بين من يحملُ شهادة، ومن تحملُه الشهادة، من يتزينُ بها ويتبختر كمثل الذي يحملُ أسفاراً، ومن يُصبحُ عبرها (قيمة مُضافة) حقيقية لعملهِ ومُجتمعه أمثال الفلاسفة، وأصحاب الفكر، والعُلماء، والمُبتكرين، والأدباء، .. وغيرهم.