الكاتب: خالد بارود
أحببت أن أكتب عن ياسر عرفات أبو عمار، فلم أجد إلا غزة حاضرة، وكأن روحه تحوم حولها، كأنها آخر كلماته، وكأن جدرانها المهدمة وسكانها الصامدين يعيدون إحياء قسمه الأبدي.
اليوم في ذكرى استشهاده، لا يمكن الحديث عنه دون أن تتجسد غزة كرمز للصمود الذي زرعه في قلوب الفلسطينيين. فغزة التي تعاني اليوم حصاراً وقصفاً وقتلاً وتدميراً بلا رحمة من قبل الاحتلال، تكمل المسيرة التي بدأها أبو عمار ورفاقه، ومن بينهم القادة العظام الشهيد عز الدين القسام والحاج امين الحسيني والشهيد عبد القادر الحسيني والاف الشهداء غيرهم، ليصبح كل شهيد وكل مصاب وكل يتيم وكل بيت يُهدم صرخةً جديدة تنادي بالحرية، وكل صمود يُعيد للعالم ذكرى رجلٍ عاش وناضل ليؤكد أن فلسطين ستظل عصية على الانكسار.
في ذكرى استشهاد أبو عمار، يقف الفلسطينيون اليوم أمام إرث قائدهم التاريخي الذي جسد، عبر نضاله الطويل، صوت القضية الفلسطينية ومقاومة شعب لا يتنازل عن حقوقه، وإن بدت الأحوال أكثر تعقيداً وضبابية من أي وقت مضى، وفي ظل خذلان الأمة وصمت العالم عن المقتلة والمجازر اليومية.
أبو عمار الذي لطالما كان رمزاً للوحدة والتحدي والصمود، يطل بروحه اليوم في ظل عدوان دموي جديد على غزة، وكأن القضية الفلسطينية بكل شواهدها، لا تزال حية تتحدى وتناضل على الرغم من الألم والجراح.
اليوم، وغزة تحت النار والعدوان، يقف التاريخ شاهداً على ما أسسه أبو عمار في وجدان كل فلسطيني، من فكرة الصمود والتمسك بالحقوق الفلسطينية، ومن إصراره على حق العودة والحرية وبناء الدولة وعاصمتها القدس. أبو عمار لم يكن مجرد رئيس أو زعيم سياسي، بل كان صاحب رؤية كفاحية تجمع شمل الشعب تحت راية واحدة، مؤكداً على أن حق الفلسطينيين في أرضهم ليس مجرد مطلب سياسي، بل هو عمق تاريخي وشرعي وإرث إنساني لا يمكن التنازل عنه.
وفي قلب العدوان على غزة، يتردد صدى عباراته التي خلدتها الذاكرة الفلسطينية: "يريدونني إما أسيراً، أو طريداً، أو قتيلاً، وأنا أقول: شهيداً، شهيداً، شهيداً، كلمات تجسد قمة التضحيات والشجاعة النادرة التي كانت ولا تزال مصدر إلهام في قلوب أجيال كاملة، حيث لم يكن أبو عمار غائباً عن غزة، ولم تكن غزة غائبة عنه، فقد كان يدرك تماماً أن فلسطين التي أحبها من البحر إلى النهر لا يمكن أن تتجزأ، وأن كل مدينة أو قرية أو بقعة وزاوية فيها حكاية عشق لكل الفلسطينيين.
اليوم يتكرر مشهد الصمود ذاته، حيث يحاكي الفلسطينيون إرث أبو عمار برفضهم للهجرة رغم حصارهم وتجويعهم، ويرفضون الانكسار رغم الموت المتربص. ففي وجه القصف المتواصل وقوة الدمار الهائل يكبرون ويزرعون تحت الحطام شعلة الأمل والتفاؤل مستذكرين كيف خاض أبو عمار ورفاقه الشهداء أو الباقين على قيد الحياة أعتى المعارك السياسية والعسكرية، وما زالوا على العهد، وكيف حافظ على شرف القضية رغم كل الضغوطات التي تعاظمت حوله. كانت رؤيته للعالمية هي إصراره على إعلاء الصوت الفلسطيني ليصل إلى مسامع العالم أجمع، وتظل ذكراه اليوم محفورة في ذاكرة كل فلسطيني وهو ينتصر بثباته على أرضه ويضحي ويصمد ويرفض الهزيمة.
إن ذكرى أبو عمار في ظل هذه اللحظات القاسية، ليست مجرد مناسبة للحديث عن تاريخ رجل بل هي تذكير بإرث نضالي يتوارثه الفلسطينيون جيلاً بعد جيل، إرث يؤكد أن العدوان مهما بلغ لن يكسر شوكة الشعب الفلسطيني، وأن الحصار والدمار لن يقتل فينا الأمل، وأن آلة الحرب والقتل لن تطفئ روح العشق للوطن والتضحية من أجله، وكما وقف أبو عمار في أحلك اللحظات ليعلن ثباته على الحق الفلسطيني، يقف الشعب اليوم وسط الموت المتساقط ليواصل المسير، وكأنها رسالة خالدة: الأرض لا تُباع، والكرامة لا تُساوم، والنضال مستمر حتى التحرير.
ياسر عرفات أبو عمار رحمه الله، اليوم أكثر حضوراً من أي وقت مضى، فكل حجر مهدوم، وكل دمعة، وكل أنين طفل، ووجع ثكلى، وألم شيخ وكل صوت ينادي بالحرية، هو شهادة على روح هذا القائد الذي لم يفقد إيمانه بقدرة شعبه على الصمود والبقاء رغم الألم والمعاناة، وعلى أن الطريق إلى الحرية، وإن كان طويلاً وشائكاً، لا يزال ممكناً. وهذا ما ردده أبو عمار دوما متفائلاً بالنصر، صادحاً بقوله: "سيرفع شبل من أشبالنا أو زهرة من زهراتنا علم فلسطين فوق أسوار القدس وكنائسها، هم يرونه بعيدا ونراه قريبا وإنا لصادقون ومنتصرون بإذن الله."