الكاتب: تحسين يقين
- هل سيفعلها ويحرر نفسه؟
- ويحرر الآخرين!
ليتنا نجد من يجلس، ويقف ويمشي معنا، كما وجد "الجالسون على الرصيف حول فيلا د. أبو الغار بالإسكندرية من يجلس معهم" فلم يستسلموا. وهكذا، ففي ظل جلوسنا وحدنا، فقد نفّذ الغازي جريمته في إبادة ما أمكنه من بشر وحجر وشجر، تاركا من تبقى عرضة للقتل والتهجير.
حين تقدمت فضة المعداوي حملة إزالة الفيلا، وقف أمامها وأمام "جرافتها" اعضاء فريق أبو الغار ليكونوا حائلاً دون هدم التراث والجمال والحضارة فجلسوا أمامها، غير عابئين بتهديد فضة من خلال مكبر الصوت.
في الدقيقة 23 من الجولة (الحلقة) الأخيرة، في مشهد ظل خالدا في الدراما العربية، يدخل دكتور مفيد أبو الغار (الراحل العظيم جميل راتب) مكتب الحجة فضة المعداوي (سناء جميل) واضعا قميصا أبيض على فرع شجرة، حاملا معه أوراق الفيلا.
وقتها تصرخ فضة المعداوي صرختها الشهيرة: واد يا حمو..التمساحة يلا!
والتمساحة هي أفخم سيارات المرسيدس التي تركبها فضة المعداوي.
وحين يضجّ الفنان ابن المحامي بأنه لا يمكن للمعداوي هدم الفيلا التاريخية، يقول المحامي بحزن وتقرير: المقاومة دلوقت ما عداتش مجزية، البيت انتقل قانونيا لها.
ظهر مسلسل "الراية البيضا عام 1988، "استنادًا إلى قصة حقيقية، بنى عليها الكاتب أسامة أنور عكاشة أحداث المسلسل، صراعا محموما بين فريق فضة المعداوي، التاجرة الثرية، والسفير المتقاعد مفيد أبو الغار ومجموعة مثقفين، حيث تحاول فضة المعداوي بكل ما لديها من نفوذ أن تستولي على القصر الأثري الذي يملكه الدكتور مفيد ويقيم فيه بعد تقاعد، لبناء مشروع استثماري، في سياق سياسة الانفتاح التي ظهرت في مصر بعد منتصف السبعينيات.
مثلت الفيلا قيمة جمالية معمارية، كما مثلت معلما تاريخيا، ارتبطت بثورة 1919، بقيادة سعد زغلول، وهذا السبب هو ما دفع الشباب المثقفين بالإسكندرية في (المسلسل) الى مواصلة النضال ضد هدم الفيلا، حتى ولو استولت فضة المعداوي عليها (قانونيا) بالضغط على مفيد أبو الغار، كون الفيلا لم تعد ملكا شخصيا بقدر ما أصبحت ممتلكات ثقافية.
"مسلسل" أطلق عليه صناعه معركة، وعلى كل حلقة أطلقوا جولة، أدارها محمد فاضل.
كان محمد فاضل ابن 50 عاما وقتها، أما الكاتب أسامة أنور عكاشة، فكان ابن 47 عاما، وكان ذلك كله عام 1988. وكلاهما شخصيتان عروبيتان، عاش المرحلة الناصرية بما فيها من تحولات، وعاش تحولات ما بعد سياسة الانفتاح.
راقني تشبيه أحد الأشخاص فيلا أبو الغار، ببلادنا، كنت ابن 21 عاما، حين رحت أتأمل في هذا التشبيه، وهو بالطبع تشبيه محتمل، فالاقتصاديون الجدد في زمن الانفتاح، يهددون قيم الجمال والتاريخ والفنون، وقد واكبنا انحدار المستوى الثقافي والفني، خاصة في السينما والمسرح والأغاني، حيث أصبح هؤلاء يمولون إنتاجات فنية غير ذات مستوى. في جانب المشبه به، كان الاحتلال وما زال يدمر ما له علاقة بالإنسانية من قيم الحق والخير والجمال.
في هذا السياق أذكر ثورة النونو، أحد صبيان فضة المعداوي، الذي يجد نفسه مسخرا لأهدافها، وحين يرى بطشها، وسلوكها أساليب لا أخلاقية، فإنه يثور عليها، حيث تتفاجأ بثورته، فيتحرر من سطوتها والخوف منها، بل لتجده أحد المعتصمين ضد هدم فيلا مفيد أبو الغار.
ثورة النونو: كان مشهدا رائعا أداه الفنان سيد زيان، حين ردّ على فضة المعداوي حين نادته بالنونو، قائلا بأن النونو كبر!
ارتبط مسلسل الراية البيضا بمضمونه الاجتماعي الاقتصادي بتحولات سياسة الانفتاح، وكان من أوائل المسلسلات التي تناولته نقديا.
عشت في مصر المحروسة طالبا في كلية الآداب ما بين 1988 و1992، وهناك من خلال العيش من جهة، ومن خلال الأعمال الأدبية الجديدة، أو التي كان يعاد بثها، كفيلم "سواق الأتوبيس" 1982 لعاطف الطيب، الذي كان من أجرأ الأفلام التي انتقدت العهد الجديد.
نكبر فتتوسع الرؤية، نتأمل منظومتنا العربية والخلاص القومي؛ فنربط بين ما حدث من سلوك اقتصادي اجتماعي، لم يقتصر على مصر المحروسة، بل امتد الى العديد من الأقطار العربية، فنج أنفسنا نعود الى فيلا دكتور مفيد أبو الغار، ليتعمق ليس التشبيه فقط، بل إلى اعتبار أن ما نتج عن سياسة الانفتاح والليبرالية الاقتصادية، قد جعل الخلاص الفردي لدى فضة المعداوي مرتبطا بخلاص نخبة متسلقة غير ملتزمة ولا منتمية، خلقت بيئة حاضنة للزهد ليس بما هو قومي فقط، بل بما هو وطني. وهذا ما تم التخطيط له، لبرمجة العقول وهندسة السلوك، لتنعم دولة الاحتلال بالاستفراد بفلسطين من جهة، ونهب الاستعمار للثروات العربية من جهة أخرى.
لكن لماذا النونو؟
الشخصية الهامشية في المسلسل يصبح الشخصية الأكثر قوة.
لأنه كان من الذين اعتبرتهم فضة مضمون الولاء، لأسباب كثيرة، كونه المشغّل له. لكن لأنه إنسان رفض استمرار الاستلاب، فقد ضحى بما ترمي له فضة من الفتات، ليختار طريقا حرا.
فهل سنجد نونو آخر في حياتنا العربية، يثور في وجه الاحتلال؟
كم من نونو في بلادنا في مستويات الحكم والإدارة؟! أما حان الأوان ليكبروا؟ لقد حان الأوان أن نتمرد على فضة المعداوي، وما تمثله من نخب ارتبطت للأسف بسياسات الاستعمار.
ينتهي مسلسل "الراية البيضاء" بمشهد صادم، وهو مشهد تحرك جرافة فضة المعداوي تجاه المعتصمين رفضا لهدم فيلا د مفيد ابو الغار، حيث تقف الصورة، لينطلق صوت الفنانة فردوس عبد الحميد (لم تشارك في المسلسل) على إيقاع الآلة الكاتبة: نداء>> "الجالسون حول فيلا ابو الغار بالإسكندرية يدعوكم للجلوس معهم حتى لا يضطر د مفيد ابو الغار الي رفع الراية البيضاء".
حين جوجلت معلومات المسلسل، عرفت مفارقة موجعة؛ "فقد هدمت الفيلا الحقيقية التي دارت حولها أحداث المسلسل عام ٢٠١٠ دون علم هيئة الآثار، حيث كانت الفيلا محور الأحداث عبارة عن فلتين مملوكين لعثمان باشا محرم، شيخ المهندسين، وقدم تم هدم أحدهما وتشويه الأخرى حتى خرجت من المجلد الخاص بالآثار المصرية".
وأخيرا إنه دور الفن والثقافة في الانتصار للإنسان وقضايانا؛ ففي ظل ما بدأ ينتشر من فن هابط، جاء مسلسل الراية البيضا ليؤكد أنه هناك استثناءات خارج قطيع الانفتاح.
لعل دور الإعلام والثقافة اليوم هو دور مقدس في بث الأمل، حتى لا نرفع الراية البيضاء.
- هل سيفعلها ويحرر العربي نفسه؟
- سيفعل!