الكاتب: مصطفى ابراهيم
ما يحدث أمام المخابز مهين بسبب استغلال بعض المجموعات العائلية شبه العصابية للأزمة، وفرض سطوتها على “تجارة الخبز” ولقمة عيش الناس المجبولة بدمائهم.
بعد أكثر من عام على حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، وصدور مذكرات اعتقال دوليّة بحق نتانياهو وغالانت، ما زالت تردَّد عبارة: “لو كنا نريد قتل الفلسطينيين كلهم لكنا قتلناهم”. فبعد الاتفاق مع أميركا، وجدنا أنفسنا أمام معادلة “المساعدات للغزيين مقابل السلاح للجيش الإسرائيليّ”، المعادلة التي يُجوّع عبرها الجيش الإسرائيلي سكان القطاع، عبر إدخال كميات محدودة من المساعدات الإنسانية، والتواطؤ مع عصابات سرقة المساعدات، واستهداف أفراد الشرطة ورجال الإغاثة وفرق الحماية، التي تعمل على تأمين قوافل المساعدات وحماية كميات الطحين الوافدة، وشلّ قدرة المجتمع الفلسطيني على مواجهة ظاهرة سرقة المساعدات.
صباح السبت الماضي، التقيت شاباً يحمل فرشة وبطانية ويتحدث مع نفسه قائلاً: “ذهبت مساء للمبيت أمام المخبز لحجز دور في الطوابير في دير البلح، للحصول على ربطة خبز… وهيني راجع عشان المخبز مغلق”، إذ أُغلقت المخابز في دير البلح بعد وفاة طفلتين وسيدة اختناقاً بسبب الزحام، أثناء محاولتهن الحصول على الخبز. وفي الأسبوع الماضي، قٌتلت ثلاث نساء بعد إصابتهن برصاص أطلقه أحد الحراس، لتفريق الحشود أمام مخبز آخر في دير البلح.
ثمن ربطة الخبز الرسمي في القطاع اليوم، ثلاث شواكل (أقل من دولار أميركي واحد)، لكنها تباع في السوق السوداء بخمسة وثلاثين شيكل (نحو عشرة دولارات)، وهذه الأيام، الناس لا يفكرون إلا بالطحين، وكيف تحصل العائلة على ربطة خبز، بعد نفاد الطحين من الأسواق، ونفاد الكميات التي خزنوها في بيوتهم طوال الأشهر الستة الماضية، حين وزعت “الأونروا” الطحين بكميات كبيرة.
هذا الحال الذي وصلنا إليه نتيجة سياسة الجيش الإسرائيليّ، التي ساهمت بطريقة غير مباشرة في تشجيع لصوص المساعدات عبر دفع الإتاوات لهم، فضلاً عن عدم قدرة المجتمع الفلسطيني على تنظيم نفسه من خلال آليات معينة، وتوفير الحماية المدنية للناس ومعالجة أزماتهم، ليتمكنوا من مواجهة الأهوال، ناهيك بتحمّل “حماس” مسؤولية عدم التعاون مع مكونات المجتمع الفلسطيني في ظل ما يحصل، ويتضح عدم قدرتها على تنظيم حياة الناس.
ما يحدث أمام المخابز مهين بسبب استغلال بعض المجموعات العائلية شبه العصابية للأزمة، وفرض سطوتها على “تجارة الخبز” ولقمة عيش الناس المجبولة بدمائهم.
وأخيراً، استلمتُ كيس طحين من برنامج الغذاء العالمي، ضمن الآلية الجديدة التي وضعتها المؤسسات الدولية لمواجهة الجوع، وقد بلغ ثمن كيس الطحين ذي الـ25 كيلوغراماً في السوق السوداء، 600 شيكل وربما أكثر، عدا ما يرافق ذلك من انتظار، إذ يبدو أن هناك تعمداً لإهانة الناس.
يؤكد هذه الإهانة المتعمّدة مشهد اصطفاف الناس بطوابير طويلة من دون تنظيم، والفوضى المستشرية لاستلام كيس طحين، التي قد تنتهي بانتظار الناس لساعات طويلة من دون مبرر. هناك مثلاً موظف واحد يدخل البيانات عبر الحاسوب، وبعد احتجاج الناس يأتي موظف آخر يعمل على هاتف نقال. الكثيرون باتوا جياعاً،
ويتزامن ذلك مع إعلان “الأونروا” تعليق إدخال المساعدات من معبر كرم أبو سالم بين إسرائيل وقطاع غزة، بسبب انتشار عصابات السرقة، ما اعتبر تنصلاً من مسؤولياتها وواجبها الإنساني، وترك الناس للجوع والموت.
قبل أيام توفيت ثلاث سيدات أمام المخبز بسبب الازدحام، واليوم توفيت طفلتان وسيدة بسبب التدافع. المطلوب من كل من لديه القدرة على تنظيم حياة الناس في هذه البقعة المنكوبة، أن يجد حلاً لتوزيع الخبز بطريقة تحفظ كرامتهم وحياتهم، بدل هذه الحالة من الفوضى والذل والموت المستمرة منذ 14 شهراً، التي أدت إلى مقتل نحو 10 مواطنين/ ت من بينهم أطفال ونساء.
المعاناة الأكبر في غزة أنه يتم تجريدنا من إنسانيتنا، ونعيش ظروفاً قاهرة خارجة عن إرادتنا، وغالبيتنا تعيش في بيوت بلاستيكية وأخرى مصنوعة من القماش، أو في بيوت من دون شبابيك في البرد القارس الذي حل مبكراً، ومن دون ترف الكهرباء والمياه الساخنة، بيوت باردة من دون تدفئة.
في ظل معاناة الناس وتدمير كل مقدراتهم الشخصية من بيوت وعمل وممتلكات، وفي ظل الاعتماد الكامل على المساعدات الإنسانية، أصبح لزاماً على صانعي القرار وضع استراتيجية وطنية للحماية الاجتماعية للمواطنين والأسر والجرحى والأيتام، تلبي احتياجاتهم من الأمان الاجتماعي والحماية، بما يضمن صون كرامتهم وما يليق بتضحياتهم، على أن تشكَّل أجسام وطنية تضم ذوي العلاقة والمتضررين كافة، وضرورة إقرار سياسات مكتوبة تضمن حقوق المواطنين في الصحة والتعليم والخدمات العامة.