الكاتب: حسام أبو النصر
لقد مر أكثر من 400 يوم على العدوان على قطاع غزة مستهدفة كل مناحي الحياة فيها، ليسقط اكثر من 45 الف شهيد والاف الجرحى والمفقودين، فيما شمل هذا العدوان حتى المواقع الاثرية والتاريخية التي لم تعطى اولوية الاهتمام في بداية الحرب، بسبب العدوان على الانسان، وقد رصدنا ذلك منذ الشهر الاول، حيث تم اصدار تقرير صادر عن ممثل فلسطين في اتحاد المؤرخين العرب، وذلك في شهر نوفمبر 2023، وتم نشره في عدد من الصحف والمواقع، منها اليوم السابع المصرية، في ٤ نوفمبر ٢٠٢٣، وجريدة الايام في ٧ تشرين الثاني ٢٠٢٣، تحت عنوان القصف الإسرائيلي يطال مواقع أثرية وتاريخية في غزة، وغيرها، وقد اكدت ذلك خلال لقاءات ومقالات نشرت في جريدة الوطن المصرية منها بعنوان غزة تفقد تاريخها بتاريخ 16 ديسمير 2023، وايضا مقابلتي مع الاهرام العربي الاسبوعية بتاريخ ، ٦ يوليو ٢٠٢٤، في العدد ١٤١٥، وقد تداعت عدد من المؤسسات الرسمية وغير الرسمية لاصدار تقاريرها، على راسها اليونسكو التي رصدت العدوان على 40 موقع اثري في الاشهر الاولى، ونشرتها على موقعها الرسمي.
وفي كتابي آثار غزة وحرب التاريخ الصادر منتصف عام ٢٠٢٤ في عمان عن دار الفينيق ذكرت فيه انه تم العدوان فعلا على أكثر من 200 موقع اثري، وجاء ذلك على لسان سفير دولة فلسطين لدى اليونسكو منير انسطاس خلال جلسة عقدت بتاريخ 1/2/2024 بحضور أمين عام اللجنة الوطنية الفلسطينية للتربية والعلوم د.دواس دواس، وهذا يختلف مع ما ذكره وزير السياحة والاثار د.هاني الحايك خلال ندوة عقدت بعنوان تدمير التراث الثقافي في غزة، وجاء فيها على لسانه، انه تم تدمير 188 موقع، ونشر ذلك بتاريخ ٢٥ نوفمبر ٢٠٢٤ على وكالة معا وقد نشرت ذلك صحيفة الشرق، في 28 نوفمبر2024، مما يتضارب مع ما نشره الاعلام الحكومي، في غزة عن 206 موقع، وأيضا يتنافى مع ما نشره تقرير وزارة الثقافة الفلسطينية رام الله، في تقريرها الرابع الصادر خلال الحكومة السابقة، كما ان الحايك نفسه اعلن عن تشكيل فريقا وطنيا لحصر أضرار المواقع الأثرية، ونشر ذلك وكالة وفا بتاريخ 8/5/2024 والمفروض ان لجنة وطنية بهذا الخصوص تكون مرجعا رئيسيا.
مع ان تقرير انسطاس جاء متوافقا مع كل التقارير السابقة، بل أن جهاد ياسين مدير المتاحف والتنقيبات في وزارة الاثار رام الله، صرح لقناة المملكة دمرت 200 موقع تاريخي واثري وذلك في 4/4/2024.
فيما نشرت موقع المجلة الصادرة من لندن مقال في 24 مايو 2024 بعنوان آثار غزة في دائرة التدمير والمساومات وقالت فيه لا تتوافر حتى الآن سوى الأرقام التي نشرها المكتب الإعلامي التابع لحكومة "حماس" في غزة، حول المواقع الأثرية التي تضررت نتيجة القصف الإسرائيلي الذي أسفر، بحسب المكتب الإعلامي المذكور، عن تدمير ما لا يقل عن 200 موقع أثري وتراثي من أصل 325 موقعا مسجلا في القطاع.
فيما أصدر المركز الفلسطيني لحقوق الانسان تقرير بعنوان الابادة الثقافية بتاريخ 30 يونيو2024، ذكر فيه، أهم الانتهاكات والأعمال العدوانية الإسرائيلية التي استهدفت المباني التاريخية والممتلكات الثقافية خلال العدوان المستمر على القطاع، وذكر انه تم تدمير نحو (206) معلم تاريخي وأثري بحسب الاحصائيات الرسمية، شملت مساجد تاريخية، كنائس أثرية قديمة، وأسواق وأحياء شعبية، يعود تاريخها إلى أكثر من ألف عام، إضافةً إلى تدمير جامعات ومكتبات ومتاحف ومسارح وجداريات وقلاع، ومخطوطات ومؤسسات ثقافية. وبحسب التقرير يشكل ذلك انتهاكاً خطيراً للقانون الدولي وتخلٍ من دولة الاحتلال عن الواجبات والمسؤوليات التي تفرض عليها المحافظة على التراث الثقافي في المناطق المحتلة وحمايته. أما الجزيرة فقد نشرت تقرير بعنوان إسرائيل دمرت أكثر من 200 موقع أثري وتاريخي، تحت عنوان ماذا بقى من تراث غزة؟، وذلك في 8/9/2024، وفي تقرير لوكالة الاناضول نشر في 5/10/2024 بعنوان "عام على الإبادة الجماعية.. كيف دمرت إسرائيل آثار غزة التاريخية؟" ذكر ان إسرائيل دمرت خلال الحرب نحو 206 مواقع أثرية وتراثية من أصل 325 موقعا في القطاع
وهذا التقرير يتوافق تماما مع ما جاء مع تقرير الاعلام الحكومي في غزة، على لسان مديره العام إسماعيل الثوابتة.
وفي 11 ربيع الثاني 2024 نشرت صحيفة الشرق الاوسط، تقرير بعنوان (آثار غزة تكابد حرباً لـ«دفن الذاكرة») وقال التقرير انه تظهر دراسة حديثة أجرتها مجموعة «التراث من أجل السلام» أن الهجوم الإسرائيلي على غزة منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2023 دمر أكثر من 100 موقع أثري وتاريخي.
واصدرت وزارة الثقافة تقريرها الرابع رام الله، تحدثت فيه عن استهداف 200 موقع اثري والتاريخي، الا ان الاعلام الحكومي لغزة، اصدرت تقرير يفيد بالعدوان على 206 مواقع اثرية، وهناك تقارب كبير في الارقام، فيما صرح صالح طوافشة وكيل وزارة السياحة والاثار رام الله بتاريخ 28/11/2024 نشر في الوطن المصرية ان هناك 316 موقعا اثريا جري توثيق الاعتداء عليهم وفق اللجنة التابعة لهم، ومنها 188 موقع بين كلي وجزئي!، وهناك لبس في الرقم اذا كان جزئي وكلي 188 اذا يبقى 128 من 316 ، ماذا نصنفه اذا لا كلي ولا جزئي!
مع ان د. حمدان طه ( وكيل وزارة السياحة والاثار سابقا) يذكر في بحثه المنشور في كتاب "غزة: الحرب المسعورة"، الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ابريل 2024 ان تقرير داخلي لوزارة السياحة الاثار رام الله، وشهادات والتقارير ميدانية من خلال الاقمار الصناعية وايضا مؤسسة مبادرة التراث من اجل السلام، وايكوموس، فلسطين رصدو اضرار اصابت 23 موقعا، من بين 100 موقع استنادا الى المعلومات الواردة بصعوبة (ص 111-112) وهو رقم بعيد عن ما صدر سابقا، وخاصة جملة من بين 100 موقع؟ واذا كان يقصد العدد الكلي من المواقع فهو حسب ما هو موثق قبل الحرب كما ذكر 325 موقع اثري وتاريخي فيما يذكر حمدان اصابة 12 متحفا، مع انه في نفس الكتاب تذكر الباحثة د.رولا شهوان ان الغارات طالت 200 موقع تاريخي(ص131) أي تفاوت كبير في نفس المصدر وفي نفس الوقت!
ونلاحظ ان اغلب المصادر تقف ما بين الرقمين 200 الى 206 مواقع، ماعدا وزارة السياحة والاثار لم تتفق مع هذا الرقم.
امام كل هذه المعطيات يتبين لدينا ان هناك تضارب واضح في الاحصائيات وتضارب في التصريحات على المستوى الرسمي، وهذا يشي بحالة فوضى تضعنا في احراج، امام الجهات الدولية، حيث ان فرق الارقام لم يكن في تصاعد كما رأينا بل في تقدم وتراجع وهذا غير منطقي، ولو اكتفت الجهات الرسمية بعرض بعض المواقع الاثرية والتاريخية المتضررة كان افضل من ذكر ارقام واحصائيات.
وطبعا هنا علينا ان نفرق بيت الموقع الاثري والموقع التاريخي والموقع التراثي، والتراث العالمي، كل له تصنيف وتعريف مختلف، ولو اسقطنا ذلك على المواقع الفلسطينية المدمرة خاصة في غزة نجد ان هناك اشكالية حقيقية والخلط بينهم حتى في الرقم النهائي، حيث أن الأرقام المنشورة، على أهميتها، لا تتضمن معلومات تفصيلية، ولا تميز بين موقع أثري مهم ومركز ثقافي أو تاريخي، وهذه الفوضى في التصنيف تربك الباحثين الساعين إلى توثيق الانتهاكات، وطرح هذه الاشكالية تصطدم بعدة عوامل اولها الانقسام القائم بين الضفة وغزة ومؤسساتها، وهناك عائق للتواصل بينهم مع ان وزارة الصحة كسرت هذا العائق تماماً وتجاوزته، وتستقي معلوماتها من مستشفيات غزة مباشرة وبالتعاون مع القائمين عليها هناك لذلك نجد الى حد ما معلومات دقيقة حول الشهداء واسمائهم والجرحى وغيرها من معلومات الطبية، ايضا الصحفيين هناك تعاون واستقاء ارقام محددة بعدد الصحفيين، حيث هناك حساسية مفرطة في ذلك خاصة مع الجهات الدولية التي تطلب ارقام دقيقة وتحديث دائم للبيانات، وفي الاحصاء المركزي رام الله يذكر احصائيات لكن لم يذكر تحديدا المواقع الاثرية او احصائيات عنها، مع انه ذكر المساجد والكنائس المتضررة ولكن ليس هناك تصنيف للاثري، وهذا ايضا يفتح باب التأويل.
الاشكالية الاخرى انه ليس لدينا احصائيات متسلسلة حول العدوان على المواقع الاثرية والتاريخية مع ان ذلك حدث منذ عام ٢٠٠٨ في حرب علنية على غزة اجتاحت فيه قوات الاحتلال القطاع ودمرت عدد من هذه المواقع، ولو اطلقنا مؤشر البحث لا نجد معلومات كاملة عن الاعتداءات على ٣٢٥ موقع في غزة بشكل تفصيلي قد نجد عن بعض منها بمجملها ١٠٠ موقع تم ذكر اسمه ومكانه في التقارير دون تفصيل عن حجم الضرر، واعتقد هذا اصبح يحتاج لتعاون المؤسسة الرسمية مع لجان وفرق متخصصة في حصر الاضرار وقد تكون مشابهة للعاملة في لجان الاعمار مع الوضع بعين الاعتبار التخصص الذي قد يفيد الفريق في عمليات الرقمنة، وهذا يحتاج نماذج واستمارات خاصة بالمواقع الاثرية والتاريخية لوجود تفاصيل تختلف عن المباني الانشائية الحديثة واعمق واعقد بكثير منها، النتيجة هو توحيد العمل الوطني في عمليات الحصر والاحصاء ووقف تراشق الاحصائيات، وهذا يعطي ثقة في المعلومات يرتكز عليها الجهات المانحة التي يجب ان تأخذ بعين الاعتبار انشاء صندوق اعمار خاص بالمواقع الاثرية والتاريخية لخصوصيته، والى ذلك الحين العمل الفردي والمؤسساتي المنفرد لن يفيد بل يجب تظافر جهود البحث العلمي، كي نصل الى دقة في الارقام تؤهلنا الى نتائج دقيقة، تفضي الى وضع ارقام صحيح حول حجم الخسائر المادية والتي تحول إلى تكلفة اعمار شبه دقيقة على الاقل تساهم في سد هذه الثغرة، وهنا أيضاً وجب تحديد المباني المؤهلة اصلا للترميم، والفاقدة لأهلية الترميم، وهنا يصبح التعامل معها مختلف (على غرار المباني التي تهدمت في الحربين العالمية) كل ذلك يحتاج فِرق على الارض، ولا نكتفي بالتخمين، مما يبقي الرؤية من بعيد ضبابية لن تفضي إلا لمزيد من التساؤلات والاحصائيات المبهمة، تؤدي للتيه العلمي.