الكاتب: المتوكل طه
تعتبر الانتفاضة الكبرى نهاية 1987،تحوّلاً نوعياً وعميقاً،أكد على قدرة الشعب الفلسطيني في اجتراح أشكال جديدة للمقاومة،وعملت الانتفاضة على سدّ الفراغ الذي تركه خروج الثورة من بيروت وتوقف المقاومة المسلحة.لكن اتفاق أوسلو 1993 أدى إلى اعتراض هذه الانتفاضة وتبديد نتائجها المتوخّاة في تحقيق الخلاص الكامل.وأعتقد أن الانتفاضة الثانية(الأقصى) العام 2000 كانت محطّة صغيرة أكدت على أن دولة الإحتلال انقلبت على الاتفاق الأمني والسياسي مع م.ت.ف،وشرّعت الأبواب إلى مزيد من الاستيطان والتغوّل والاقتحامات وتدنيس المقدسات وتوقف العملية السياسية كاملة،ما يؤكد استحالة التوصل مع الاحتلال إلى أي حلّ!ما فتح المجال لانفجارات حارقة في وجه الاحتلال ،تمثّل أكبرها في السابع من اكتوبر،أو ما سمّي بالطوفان.
لقد شكّلت الانتفاضة الكبرى 1987محطّةً عملت على تغيير عميق لدى الفلسطينيين والإسرائيليين،بمعنى؛لقد وجدت إسرائيل نفسها غير قادرة على حسم الصراع مع الشعب الفلسطيني،كما تعوّدت منذ نكبة1948،الأمر الذي دفع بالقيادة الإسرائيلية،ومع تفجّر الانتفاضة وتعاطف العالم معها،وقد أصبحت نموذجا وأيقونةً،إلى طريق جديد هو "الاحتواء"بدل مواصلة القتال الذي لن يُفضي إلى أي حسم سريع،هذه المرّة،لاختلاف أدوات الانتفاضة وشكلها..ما يفسّر ذهابها إلى مدريد ثم أوسلو،وإن كان على مضض.
لقد انكسر مفهوم الصهيونية مع توقيع تفاهمات أوسلو،وعودة آلاف من الفلسطينيين إلى بلدهم،ما جعل البعض يطلق على مرحلة رابين-أوسلو مرحلة دخول الصهيونية إلى عتبة جديدة،تخلّت،وإن ظاهريا،عن عناصر من نظريتها التوسعية ومفاعيل أمنها القومي.وبدا الأمر وكأن ثمة مشهدا جديدا؛ينبئ بسلام وتعايش بين الطرفين،إذ تخلّت م.ت.ف.عن ندائها بأن فلسطين من النهر إلى البحر،وظهرت راضيةً بما قسمته لها أوسلو من فضاء وإمكانيات وأماكن ،على ضيقها،وقبلت اسرائيل بمبدأ أن يكون للفلسطينيين كيان على أرض وطنهم،بصرف النظر عن التفاصيل.
ولكن!كان خلف الأكمة ما خلفها؛فقد كان اليمين الإسرائيلي التوراتي الحاخامي الفاشيّ يتحضّر للصعود وللانقلاب على اتفاقيات أوسلو،رغم"المزايا والحسنات"التي حصلت عليها إسرائيل من أوسلو.
وتبيّن أنّ هناك زلزالين وقعا مطلع التسعينيات؛أنتجا زلزالاً ثالثاً..الأوّلان هما؛زلزال انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية،وما يعنيه ذلك دولياً،وزلزال الهجمة الأطلسية على العراق أو ما يُسمّى "حرب الخليج الثانية"،وما يعنيه ذلك عربياً،أما الزلزال الذي نتج فهو زلزال مدريد وأوسلو،وما يعنيه ذلك فلسطينياً،أي ذلك التحوّل العميق في رؤية إسرائيل،باعتبارها نقيضاً يجب نفيه وإلغاؤه..ومن ثم شريكاً ينبغي مصالحته والتعاون معه.
هذه الزلازل الثلاثة زعزعت المُسَلّمات القديمة والمفاهيم القومية والأُممية،مثلما زعزعت الأيديولوجيا الحمراء التي كانت من المسلّمات أيضا،وكذلك قلبت المفاهيم رأساً على عقب، وهدمت الُمتَحَكِّم الذي كان مسيطراً في الوعي والأدبيات والخطابات الوطنية والقومية والأممية.
إضافة إلى أن القضية الفلسطينية بدأت تفقد مركزيتها وحضورها السابق،ولم يبقَ لها إلا الإجماع الأخلاقي والديني والعروبي،والذي بدأ يتقلّص لاحقاً بفعل أخطاء فلسطينية متواصلة، وتغذية إقليمية وعربية لها.
الزلازل الثلاثة أصابت أكثر ما أصابت الأرضية الفلسطينية؛السياسية،والفكرية،والثقافية،ما أثار العديد من الأسئلة العميقة والكبيرة،وبروز لاءات توتّرت فيما يتعلق بينها وبين ما جرى (لاءات قومية،دينية، يسارية،إقليمية،شعبوية..)،ووقوع اهتزازات أخلاقية وفكرية وسياسية عميقة في العقل الفلسطيني،في ظلّ غياب تواصل في الوعي ما أفقده توازنه،وبالتالي قاده إلى أزمة إدراك.وفي ظل سيطرة العقلية التجزيئيّة والتعميمية والتجريبية التي أدت إلى الفشل والتيه،لأن الوعي لا ينطلق من ذاته عندما نواجَه بأسئلة تفرض علينا تغيير ذاتنا،فعندها لن نجد أسس تغيير الذات،بل كان يجب الانطلاق من داخل الحدث،وليس من خارجه ومن ثم إلى داخله،حتى لا نقع في الميكانيكية والآلية أو في تطبيق النظريات الجاهزة،عداك عن غضاضة التجربة،والتباس الأولويات وتداخلها،وتداخل الأجهزة والمصالح والصلاحيات وغياب التخطيط وسيطرة تلك العقلية،ما أدى إلى إغراق الوعي ونفيه ومحاصرته.فالمؤسسة التي لا تخلق تُدمَّر،وبالتأكيد لا يكفي الاحتجاج السلبي،أو طرح ما هو بعيد عن الزمان والمكان وما يدور حولنا.
وإسرائيل التي تمّت صناعتها وإقامتها،هنا في فلسطين،وُجِدت أصلاً لتأدية دور وظيفي للقوى الإمبريالية الكبرى في المنطقة،وبالتحديد الولايات المتحدة،لهذا من المستحيل أن تستجيب هذه الدولة لمعاني السلام ورح العدل.
ثم إن اليمين الإسرائيلي بالذات متجذّر في السياسة الإسرائيلية منذ عشرينيات القرن الماضي، وهو يمين مكشوف الوجه لا يوارب،ولا يحاول تجميل صورة إسرائيل الديمقراطية الغربية إذا كان ذلك على حساب الفاتورة السياسية والأمنية. وإسرائيل – وبسبب الدعم الأمريكي الغربي المطلق لها – ترى في نفسها دولة "عظمى"،وتتصرف بغطرسة وخيلاء وصلف،ليس مع الفلسطينيين فحسب،بل ومع العالم أجمع،وهذا في جزء منه،يعود إلى التربية اليهودية القائمة على العنصرية والتبجّح ورؤية "الغوييم" الفوقية.ولهذه الأسباب كلها فإن إسرائيل مستعدة لدفع الثمن الأمني والديمقراطي والأخلاقي من أجل الاحتفاظ بالأرض،وبمهمتها الوظيفية المتقدمة.عدا أن إسرائيل دولة ذات مؤسسات ونظام وقوة اقتصادية وعسكرية هائلة.أما السلطة الوطنية الفلسطينية،ومنذ العام 1994حتى انفجار الانتفاضة الثانية العام 2000م وما بعدها،فإنها ظلّت سلطة ضعيفة اقتصادياً وعسكرياً،ولم تستطع أن تؤصّل مؤسسات مدنية وأمنية واقتصادية متماسكة وراسخة،بقدر ما انحرفت بعض تلك المؤسسات عن مهمّتها،وتنازعت فيما بينها،وتراكمت التجاوزات والأخطاء،وغاب،كثيراً،عامل الحسم والمحاسبة ومبدأ الثواب والعقاب.وللتاريخ أقول إن ثمة أسباباً موضوعية داخلية(الانقسام2007)،وأسباباً خارجية مؤثرة،عملت جميعها على إيصال السلطة الوطنية إلى ما وصلت إليه من وهن وتفكك وضعف،إضافة إلى سيطرة العقلية التجريبية والتعميمية والتجزيئية،والإبقاء على صيغ الحكم التقليدية،وانفراط وتراجع النُّخب،الأمر الذي جعل الشارع الفلسطيني يضيق ذرعاً بمخاتلة إسرائيل وبممارستها الاستيطانية والقمعية وضربها عرض الحائط بكل الاتفاقات،كما جعل الشارع الفلسطيني يضيق ذرعاً،أيضاً،بحالة الفساد التي بدأت تستشري في الجسم الفلسطيني،لهذا لم يكن هناك من مناص إلا أن ينفجر هذا الشارع،فكانت "زيارة" اقتحام شارون الحرم القدسي الشريف،الشرارة التي أشعلت النار في الهشيم المتراكم،وكانت الانتفاضة الثانية أو انتفاضة الأقصى أو الاستقلال،أو ما شئت تسميتها.
وبعد صعود اليمين إلى الحُكم في إسرائيل نهاية الثمانينيات،وتحكّمه لاحقا..استطاع أن يأخذ أولى خطواته نحو الرجوع إلى مربّعاته الأولى وأدبيات جيبوتنسكي،وعودة الصهيونية المتجذّرة إلى سياقها،فقتلت رابين،وفجّرت الانتفاضة الثانية التي أتاحت لها أن تُدمّر إنجازات كبيرة للفلسطينيين،وتعيد احتلال الضفة والقطاع،وانقلبت على الاتفاقيات الأمنية والسياسية والاقتصادية،وراحت تعمّق سياساتها في هذا السبيل،وتحاصر الفلسطينيين وتعمل على تشظيتهم،وتسمّن الاستيطان وتُطلق نيران المستوطنين في البيوت والحقول،وتدنّس المقدسات،ولم تأبه لأي مقولة أو اقتراح يدعو إلى إعادة الطرفين إلى جادة التفاهم والأمن والسلام،ودفنت فعليا كل الحلول الممكنة قبل النطق بها..لهذا؛كان لا بدّ للفلسطينيين إلا أن يجدوا معبراً لمقاومتهم،التي تعاظمت،وعبّرت عن نفسها من خلال نتوءات هنا وهناك،إلى أن كان يوم السابع من أكتوبر2023 ،أو ما عرف بطوفان الأقصى.
من هنا أدرك الاحتلال أنه أمام تهديد وجوديّ،وبعد أن انفتحت عليه نارا وقصفا،جبهات لبنان واليمن والعراق وإيران.لهذا،وأمام هول ما حدث؛ذهبت اسرائيل الفاشية إلى تطبيق نظرية الرّعب،بدل الحسم التدريجي،الذي لم يعد مجدياً،فأظهرت ما أظهرته من قصف وحرق وهدم وقتل وإبادة مفتوحة،غير آبهة بشيء أو لأحد..