الأربعاء: 18/12/2024 بتوقيت القدس الشريف

إصرار الغرب الإستعماري على الإطاحة بنموذج الدولة القومية الحديثة في الشرق الأوسط

نشر بتاريخ: 16/12/2024 ( آخر تحديث: 16/12/2024 الساعة: 14:55 )

الكاتب: مروان اميل طوباسي



على مدار ما يقارب من السبعة عقود الماضية، شهدت الدول العربية بعد مراحل الاستقلال المفترض سلسلة من الهزائم المتراكمة التي تجاوزت المعارك العسكرية لتصل إلى عمق المشروع القومي العربي . هذه الهزائم ليست مجرد انعكاس للمخططات الاستعمارية أو الهيمنة الإسرائيلية، بل هي أيضاً نتاج أزمات داخلية وإخفاقات سياسية واقتصادية أفرزتها النظم الحاكمة نفسها . فاليوم، نجد أنفسنا أمام واقع يتطلب الاعتراف بحجم المشكلة قبل التطلع إلى أي حلول.

فدول المشرق العربي تشهد ومنذ عقود امام اعيننا محاولات متواصلة لتفكيك بنيتها السياسية والأقتصادية والاجتماعية، في إطار مراحل متقدمة للمشروع الإستعماري القديم المتجدد تقوده الولايات المتحدة وإسرائيل . هذا المشروع لا يستهدف فقط إعادة تشكيل خريطة المنطقة، بل يهدف إلى تقويض شكل ودور الدولة القومية الحديثة بل وهزيمتها التي تأسست بعد الاستقلال العربي والتي عانت الحصار الغربي ومحاولات اخضاعها منذ ذلك التاريخ في غياب حركة معارضة عربية ديمقراطية موحدة ومسوؤلة بغض النظر عما تعرضت له ارهاصاتها من قمع .

ففي مرحلة ما بعد الاستقلال، حملت الدولة القومية العربية آمال الشعوب في تحقيق الوحدة والاستقلال. ولكن سرعان ما تراجعت هذه الآمال بفعل عوامل عدة اهمها ،
اولا : الاستبداد السياسي ، حيث أدت هيمنة الأحزاب الحاكمة، والانقلابات العسكرية المتكررة وتصفية الحسابات الشخصية والحزبية ، إلى تغييب الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، مما جعل الدول أكثر عرضة للضغوط الخارجية.
ثانيا : الإخفاق في مواجهة إسرائيل ، فرغم الحروب والنزاعات المتكررة، فشلت الدول العربية في كبح جماح التوسع الاستيطاني الإسرائيلي ، الذي واصل ابتلاع الأراضي الفلسطينية وتحقيق أهدافه التوسعية الكولنيالية في فلسطين التاريخية ، بل وفي حدود أوسع .
ثالثا : غياب الاستقلالية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية ، حيث لم تكن الدولة القومية قادرة على بناء اقتصاد قوي ومستقل يحقق الكرامة لمواطنيها.
ففشلت في بناء قاعدة صناعية رغم الثروات الطبيعية والبشرية الهائلة، الا انها لم تتمكن من تحقيق استقلال اقتصادي يجعلها قادرة على الصمود في وجه الأزمات . كما أدى غياب العدالة وتفاقم الفقر والبطالة إلى إضعاف النسيج الاجتماعي وتراجع الثقة بين الدولة والمواطن.
رابعا : غياب رؤية موحدة للصراع مع إسرائيل، وتقديم المصالح الفردية للنظم الحاكمة او احزابها على حساب المصالح القومية.
خامسا : التطبيع والانحياز السياسي الذي تمثل بهرولة بعض الدول نحو التطبيع مع إسرائيل أضعف الجبهة العربية الموحدة وأعطى الأحتلال شرعية إقليمية.

في هذه الظروف ، تبدو ملامح ما يُسمى "الشرق الأوسط الجديد" أشبه بمخطط مدروس يسعى لخلق كيانات ضعيفة وهشة، تفتقر إلى السيادة والقدرة على اتخاذ قرارات مستقلة، بما يضمن بقاء المنطقة تحت الهيمنة الغربية والإسرائيلية بما يمثله هؤلاء اليوم ممن "أعلنوا تحرير" المسجد الأموي وارتكبوا كل موبقات الإرهاب من خلال مسميات تنظيمات اسلاموية على مدار العقدين الماضيين ومن يأتون اليهم تباعا من الأمريكان الى هنالك بعد توجيه الضربات الإسرائيلية التي قاربت من خمسمائة هجمة واحتلال الأراضي السورية مجانا .

التفكيك المنهجي لمركزية الدول الوطنية بل والاصرار على هزيمتها أصبح الوسيلة الأبرز لتنفيذ هذا المخطط . سوريا والعراق كانتا في صدارة المشهد من ذلك الامر بالمنطقة ، حيث استُغلت النزاعات المسلحة والانقسامات الطائفية والإثنية كأدوات لإضعاف هاتين الدولتين اضافة الى غيرها طبعا من الدول العربية في المغرب العربي وشمال افريقيا . لم تكن هذه الانقسامات مجرد نتيجة طبيعية لصراعات داخلية ، بل تم تأجيجها ودعمها واشغالها في نزاعات إقليمية بعيدة عن العدو الرئيسي للقضية القومية لتقويض أي محاولات لاستعادة الدور الإقليمي لهذه الدول . فالهدف كان واضحاً وهو منع أي دولة عربية من أن تصبح قوة إقليمية قادرة على تشكيل تهديد للمصالح الإسرائيلية أو الأمريكية التي أعتمدت في سياساتها على مبدأ الانتقائية من مفهوم الديكتاتورية والديمقراطية بما يخدم مصالحها .

في ظل هذه الفوضى، ظهرت استراتيجيات إعادة رسم الخرائط كجزء آخر من المخطط . ما بدأ مع ما سُمي "الربيع العربي" تَحول تدريجياً إلى مشروع تقسيم الدول وتفتيتها إلى كيانات صغيرة ، متصارعة فيما بينها، وتعتمد على قوى الاستعمار في التأسيس لها وحمايتها ودعمها منذ سايكس بيكو ورؤية كيسنجر وبريجنسكي وبولتون وكوندوليزا رايس ، حيث هذا النموذج يُعزز الهيمنة الإسرائيلية ، فتصبح إسرائيل القوة الأكثر استقراراً ونفوذاً في منطقة مفككة سياسياً وعسكرياً واقتصاديا واجتماعيا .

ولأن التطبيع مع إسرائيل يُعد هدفاً استراتيجياً لهذا المشروع، فقد أصبح الضغط على الدول العربية للتنازل عن مواقفها تجاه القضية الفلسطينية أداة رئيسية . الفوضى تُستخدم كورقة تهديد و لإضعاف أي جبهة عربية موحدة او كيان مستقر نسبيا ، مما يُجبر الدول على تقديم تنازلات سياسية واقتصادية. هذه التنازلات بدورها، تُحوّل إسرائيل إلى شريك إقليمي طبيعي بل ومُستغِل لمقدراتها وخاصة الطاقة والغاز ، رغم استمرار احتلالها واعتداءاتها من خلال جرائمها المستمرة والمتصاعدة على شعبنا الفلسطيني في محاولات التنفيذ المتكامل للمشروع الصهيوني الأحلالي .

وفي الوقت ذاته، تم استغلال الجماعات المسلحة وتحديدا الاسلاموية كأداة فعّالة لاستنزاف الدول العربية. هذه الجماعات، سواء تم دعمها أو مواجهتها، تُجبر الدول المركزية على تحويل مواردها من مشاريع التنمية إلى الإنفاق العسكري والأمني . هذا الاستنزاف المستمر يُضعف مناعة الدول ويجعلها أكثر عرضة للضغوط الخارجية.

عدوان الإبادة الجاري في غزة اليوم يجسد جانباً آخر من هذه الاستراتيجية. إسرائيل، بشراكة ودعم أمريكي واضح، تستغل الصراعات في المنطقة لفرض رؤيتها، في حين تواصل واشنطن لعب دور المُعرقل لأي جهود لوقف العدوان الابادي بما يسمى وقف إطلاق النار . هذه السياسات تُبقي المنطقة في حالة دائمة من عدم الاستقرار، بما يخدم المصالح الإسرائيلية على حساب أمن الشعوب ومستقبلها ، وتساهم في تهيئة الاجواء السياسية المحلية بهدف أعادة مشاريع استعمارية يقدمها ترامب اليوم بتصوراته في صفقة القرن ٢ كحد اقصى لما يعتبره حلا لمشاكل المنطقة دون الحقوق السياسية والتاريخية غير القابلة للتصرف لشعبنا الفلسطيني .

في المقابل، تبدو القوى الإقليمية، مثل إيران وتركيا، في موقع متباين. فرغم محاولاتهما لتثبيت نفوذهما كقوتين إقليميتين، إلا أن تعاملهما مع الأزمات غالباً ما يُغذي الانقسامات الإقليمية بدل معالجتها خاصة فيما نراه اليوم من ضم مناطق الشمال السوري لنظام اوردوغان . أما الدول الكبرى مثل روسيا والصين ، فرغم حضورها المتزايد في المنطقة، إلا أن انشغالها بتحدياتهما الداخلية والخارجية يجعلهما متاخرتان عن مواجهة الهيمنة الأمريكية بشكل فعّال في منطقتنا .

في ظل هذه المعطيات، تبدو آفاق المستقبل مظلمة إذا ما استمرت هذه المحركات المتسارعة وما هو متوقع ان يجري قريبا في دول عربية اخرى مجاورة بحسب المخططات الصهيونية .

كل ما سبق غير مُبشر ولا يشي بخير على الأقل ، وإن صح تماماً واستمر فلن يؤدي إلا لمزيد من السوداوية والتشاؤم وصولاً إلى تنصيب ديكتاتورية جديدة وصبغ المجتمع السوري تحديدا وغيره قريبا ، المؤلف ليس من العرب فقط وليس من المسلمين فقط وليس من المتدينين فقط وليس ممن يحبون اتباع أحكام الشريعة فقط ، بلون واحد وشكل واحد غصباً.

اليوم الحاجة ملحة إلى استراتيجية جديدة تُعيد الاعتبار لمفهوم الدولة القومية المدنية وتُعزز الوحدة الداخلية للدول المتضررة. التحالفات الإقليمية الواعية، القادرة على تجاوز الانقسامات الطائفية والإثنية، قد تكون أحد الحلول لإعادة التوازن إلى المنطقة. كما أن استثمار المتغيرات الدولية، مثل تصاعد النفوذ الصيني والروسي والتعاون معهما ، يمكن أن يُعزز من قدرة المنطقة على مقاومة الهيمنة الغربية.

لكن، يبقى السؤال: هل تمتلك الدول العربية والإسلامية الإرادة السياسية والوعي الشعبي الكافي لكسر هذا المخطط؟ الإجابة على هذا السؤال ستحدد مستقبل الشرق الأوسط لعقود قادمة . فالرهان على الفوضى لم يعد خياراً نبتهلُ له ، بل أصبح تهديداً وجودياً يتطلب مواجهة حقيقية وحلولاً جذرية تُعيد للمنطقة مكانتها وسيادتها.

الا ان الهزيمة ليست قدراً محتوماً، ولكن الاعتراف بها يمثل الخطوة الأولى نحو تجاوزها . إن إعادة بناء الدولة القومية يتطلب إرادة سياسية وشعبية قادرة على كسر المخططات الاستعمارية من جهة، وتصحيح المسار الداخلي من جهة أخرى . ويبقى السؤال الآخر والابرز حاليا هو ، هل سنواجه الحقائق بشجاعة ووضع رؤية تستند الى برنامج واضح وأدوات عمل من اجل الوصول الى حقنا بالحرية والاستقلال الوطني أم نستمر في دوامة ردود الفعل على سياسات المشروع الصهيوني ؟ الإجابة على هذا السؤال ستحدد واقع ومستقبل منظمة التحرير الفلسطينية بما لها من مكانة شرعية وتمثيلية عبر تاريخ كفاحنا الوطني ومعها كافة ابناء الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية لعقود قادمة .