الخميس: 02/01/2025 بتوقيت القدس الشريف

عمتي رحمة

نشر بتاريخ: 30/12/2024 ( آخر تحديث: 30/12/2024 الساعة: 17:43 )

الكاتب: تحسين يقين

دوما كانت ملامحها جادة، حتى الابتسامة تكون في شجن، وعندما كنا نراها، كنا نقرأ حكايات البلاد، وحكاية نضال اجتماعي ووطني، لأم بأسرة كبيرة، وكم كان جميلا عندما تبتسم عمتي أم يوسف. كانت لها هيبة ووقار غريب؛ فلم أر إنسانة ظلت تحمل الوطن في قلبها مثلها، وكانت ترى أن كل فرحة تظل ناقصة ما دامت بعيدة عن بلدتها الأصلية.
قليلة الكلام، فكيف سأصيغ الكلام عنها!
حين عرضت دراما التغريبة الفلسطينية، أذهلتني أم يوسف بحكاياتها، والتي من الممكن أن ينتج منها أفلام ومسلسلات، وقصص وروايات؛ ففي كل مرة كنت ألتقيها كنت أود أن يكون اللقاء أدبيا لأسجل ما تقوله. قالت إنها شاهدت المسلسل لكن تتابع أنها عاشت الكثير من قصص النكبة عن قرب. حدثتني بشكل خاص عن تشتت الأسر الفلسطينية وأفرادها، فلم يكن الرحيل دوما كاملا، كما الموت، وكما الحياة. وحين ذكرت لها حداثة المرأة التي حملت المخدة ظانة أنها ابنتها، قالت وكم من امرأة فلسطينية أذهلتها الحرب عن الأطفال.
يبدو أن حكايات النكبة هي مفتاح شخصية الحاجة رحمة حماد السريسي، نسبة إلى سريس، القرية الأم التي اضطروا لمغادرتها تحت وقع القتل والتهديد؛ فلم تتقبل بعد عشرات السنوات ما كان، فظل لديها أمل بالعودة. ظلت مسكونة بالوطن، وظلت مجروحة. ويبدو أن هزيمة عام 1967، كانت "الكف" الثاني لها، حين استيقظت ذات يوم، لتجد أن الغزاة قد وصلوا دورا القرع بلدها حيث تزوجت من عقد من السنوات، وبيت دقو القرية التي عاشت بها؛ فقد تم احتلال ما تبقى من فلسطين، فلم تعد رحمة الى سريس، بل صارت البلاد كلها تحت احتلال واحد,
واصل زوجها الأستاذ عبد المحسن زغلول عمله معلما ومديرا، في حين كانت لها أدوار البطولة كأي فلسطينية، في رعاية الأسرة والأرض معا. أيقنت أن المصير مرتبط بتمعير الأرض وتعليم الأبناء، حيث رعت هذه الأم 8 أبناء وابنة، ليشربوا منها أجمل ما شربوا، حب الأرض، وورثوا عنها شعورها القديم، ألا وهو فقد قريتها، التي صارت قريتهم: سريس، فانتمى الأبناء إلى ما انتمت له عمتي رحمة: سريس وبيت دقو ودورا القرع. انتمت للأرض الزراعية بشكل عضويّ، حيث كانت تؤمن بأن الأرض وحدها هي ضمان العيش الكريم.
توزع العمر على سريس وبيت دقو ودورا القرع؛ فلم تكن قد غادرت طفولتها بعد حين سطت العصابات الصهيونية على قريتها القريبة من القدس عام 1948، لتلجأ مع الأسرة الى بيت دقو، قرية أمها، لتعيش فيها عقدا من السنوات، أو أقل لتنتقل الى بيت زوجها في دورا.
ابنة عمتي وشقيقاتها، وأبناؤها، وأبناء شقيقاتها، قصة أسرة، بل أسر فلسطينية، ووطن جميل بالأرض، وحبها؛ فما أجمل من اتحاد العمل الزراعيّ بالعمل الوطني. وهنا كانت، وهنا استمرت في بقاء عظيم حتى الرحيل، متشحة بشال أسود، وصمت نبيل، وإيمان الفطرة النقيّ.
حكاية عمتي رحمة، هي حكاية شقيقات عانين عقوبات الاحتلال لأبنائهن وبناتهن، ولعل من تابع الحركة الوطنية منذ السبعينيات، سيتذكر أسماء أبو حبسة ونافع وزغلول؛ فقد طال التأثير أبناء الخالات الثلاث.
سارة أم محمد نافع، وحليمة أم محمد أبو حبسة (مخيم قلنديا)، وهي أم يوسف زغلول، ثلاث حكايات فلسطينية تطل دوما معا، ليطل تاريخ فلسطين على مدار 77 عاما؛ فكل واحدة منهن، وأسرتها نحتاج كتابا فعلا لنوثق فيه معاناتهن، لكن لعل رحلتها الأخيرة اقترنت بفرح تحرر محمد زغلول من معتقلات الاحتلال، لكن لم يشأ الاحتلال إلى السطو على تلك الفرحة، فلم يكد يخرج من المعتقل حتى أعيد إليه.
رحمة أم يوسف، وأم محمد زغلول وأخوته، هي الأم الفلسطينية التي ظلت صابرة وصبورة حتى اللحظات الأخيرة، لترحل هذه المرة دون وداع ابنها محمد والذي حين يفرج عنه هذه المرة، لن يجدها بانتظاره في بيتها في مدخل دورا القرع على طريق نابلس.
على بلكونة البيت، روت لي عمتي رحمة حكايات الانتفاضة الأولى، وكيف أنها كانت تفاجأ حين كانت تطل من باب البيت فجرا وليلا بجنود الاحتلال، كم كان لها من ذكريات، وكم كان لها حرص كبير على شباب البلد ومن حولها؛ فقد كانت من الحنان لتضم كل شاب وتحميه من الاعتقال.
حقد الاحتلال أسود وأعمى حين خطف ابنها منها بعد انتهاء حكمه في سجون الاحتلال؛ فأي حقد هذا الذي يستكثر لقاء الأم بابنها!
رحلة أليمة لسيدة فلسطينية تحملت اعتقال الأبناء، والتنقل بين المعتقلات، ورعاية الأرض الزراعية، ورعاية الأسرة. رحلة شاقة ومتعبة، ترى، وهكذا يتساءل كثيرون، كيف تحملت أم يوسف والفلسطينيات هذه المعاناة؟ والغريب أنها وأنهن لم يكن يلجأن للشكوى ولا لطلب أي شيء؟
تحملت ما عانته، وما عانته شقيقاتها وجاراتها، معاناة الفقد والأسر؛ فبفطرتها كانت تؤمن أم يوسف أن الوطن والأرض هنا وهناك تستحق النضال، وكانت تؤمن بأن الحق عائد لأصحابه. كان لديها إيمان عميق، يقوي إيمان كل من كان يستمع لكلماتها القليلة.
غادرتنا عمتي رحمة مطمئنة الضمير، بعد أن أدّت رسالتها كاملة غير منقوصة تجاه الأسرة، وتجاه الأحباب في كل مكان، وتجاه الوطن، بيد مفتوحة دوما للعطاء العجيب والزهد بما في يد الناس.
رحلت أم الصبر تاركة دورا القرع تتابع خضرتها وأشجارها وزرعها، وتاركة "سريس" بأشجار زيتونها التي غزته النباتات البرية، وسناسلها الجميلة، تنتظر، وتاركة بيت دقو تذكرها بكل وصف يليق بكل هذا البهاء.
بوجه مكتمل الإشراق مضت ام يوسف، راضية مرضية، ولسانها يدعو لأبناء فلسطين، أبنائها، متمسكة بالحنين للأرض والعمل الزراعيّ فيه، الذي كانت حين تلامس تراب دورا القرع وبيت دقو، إنما لتلامس تراب هناك في "سريس" المستلبة، والتي غير الغزاة اسمها الى "شورش"، لكن لم يقدر على تغيير وجه المكان، فظل الأشجار والسناسل هناك تنادي على أصحابها.
لم نودع أختا ولا أما، ولا عمة ولا ابنة عمة، بل ودعنا في أم يوسف المرأة الفلسطينية، وأودعنا فيها الضمير النقي، منتظرين بقاء كل ما هو أصيل ليظل متوالدا.
هناك، عند البيت ذي الأبواب والشبابيك الخضراء، على مدخل دورا القرع، ستظل أم يوسف في وقفتها تنظر الى الجبال حولها، تنتظر محمد زغلول، ومعه الوطن.