الكاتب: د.نبيل عمرو
ساد قولٌ لا أساس له من الصحة، مفاده أن عملية طوفان الأقصى أحيت القضية الفلسطينية، بعد أن لفظت أنفاسها وأصبحت نسياً منسياً.
ازدهر هذا القول حين أحدث زلزال السابع من أكتوبر ارتداداته على مستوى الكون كله، وكان للرد الإسرائيلي الوحشي دوراً كبيراً في بلورة حالةٍ عالميةٍ تضامنية مع غزة، التي فاق القتل والتدمير فيها كل تصور، فتعاظمت الإدانات الشعبية والرسمية لإسرائيل، وظهرت حالة من انعدام التوازن بين التعاطف الشامل والقوي مع غزة، وبين الجهود التي بذلت لوقف الحرب، والتي فشلت إلى الحد الذي جعلها مستمرةً حتى نهاية العالم 2024، دون ظهور مؤشرات جدية على أنها في سبيلها إلى النهاية.
ذلك إضافة إلى انعدام التوازن في الموقف الأمريكي الذي تبنى الوساطة تحت عنوان وقفها عبر مراحل متدرجة لهدنٍ وصفقات تبادل، وبين كثافة الدعم المالي والتسليحي والسياسي لإسرائيل، التي كانت وما تزال تغلق الأبواب وتسد الطرق أمام أي جهدٍ يهدف إلى وقف النار وإدخال الحد الأدنى من المساعدات الإنسانية لغزة.
استمرت الحرب خمسة عشر شهراً وخفّت مظاهر وفاعليات التضامن الشعبي، الذي بلغ ذروته في منتصفها وعلى مدى العام الذي نشهد احتضاره في أيامه الأخيرة.
لم يتوقف عداد القتل عن العمل، ولم تخف حدة التدمير المنهجي لمناطق كاملة من قطاع غزة، ولم تتوقف كرة النار عن الانتقال من مكان لآخر فيها مع فتح أبواب التهديد على مصاريعها للضفة.
كما سجل العام 2024 أكبر إنجازات إسرائيل على ساحات الإسناد وقواها، رغم محدودية الرهان الفلسطيني على جدواها في أمر حسم الحرب على غزة، إلى أن توّجت الإنجازات بسقوط سوريا في القبضة الإسرائيلية وهنا يحتاج الأمر إلى توضيح..
لم تكن سوريا رغم تسجيلها على قائمة وحدة الساحات كمركز متقدم لقوى الممانعة، ذات تأثير مباشر في مجريات الحرب على غزة، إلا أن سقوطها في القبضة الإسرائيلية أخيراً أدّى تلقائياً إلى أن يدفع الفلسطينيون ثمن ذلك من خلال مضاعفة الاستقواء الإسرائيلي عليهم، ليس فقط قتالياً حيث تتواصل الحرب على غزة تحت عنوان "النصر المطلق"، بل سياسياً واستراتيجياً حيث تتضرر القضية الفلسطينية في العمق من التعامل الإسرائيلي مع الحالة السورية، بما تجسده من تقدم كبير لخطط إسرائيل المدعومة أمريكياً بشأن تغيير المنطقة، وأساس التغيير الذي تنشده إسرائيل إغلاق أي إمكانية فعلية لقيام الدولة الفلسطينية.
إذاً لم تكن سوريا النظام قبل التغيير الذي حدث فيها داعماً مؤثراً للفلسطينيين في الحرب المفروضة عليهم، إلا أن سقوطها ووفق الأجندة الإسرائيلية جاء وبالاً عليهم.
كان العام 2024 هو أصعب الأعوام في عمر القضية الفلسطينية، قضية القرنين العشرين والواحد والعشرين. وأصعب الصعب أن هذا العام الذي نعيش احتضاره الدموي سوف ينتهي إلى بداية عامٍ جديد فيه من الغموض في مسار القضية الفلسطينية ما يحير ويقلق.
إنه عام ترمب، وعام الوقوف الإسرائيلي على قمة جبل الشيخ ، أي على بعد كيلومترات قليلة من دمشق، التي هي الآن بلا جيش، وهو عام احتمالات الذهاب إلى حربٍ أشد قسوة من كل ما سبقها على إيران، وفي الطريق تتعاظم التهديدات للذراع الإقليمي المتبقي من المحور ووحدة الساحات اليمن.
وكذلك هو عام التركيز الإسرائيلي على الانتقال من غزة التي تؤول إلى استبدال العملية العسكرية المباشرة عليها ولو بعد زمن، إلى حصار وسيطرة أكثر قوة وإحكاماً من كل ما سبق، ثم الانتقال نحو الضفة حيث معضلة جنين تبدو كجرحٍ يصعب التئامه مع فتح جراح موازية في أماكن أخرى من الضفة ليس آخرها طولكرم ونابلس، ذلك يترافق مع الاستيطان المتسارع والمتسع فوق جغرافية الضفة كلها.
حالٌ كهذا يدعو إلى القلق، بوجود دونالد ترمب رئيساً في البيت الأبيض، وهو صاحب صفقة القرن، التي ذوت مع خروجه مهزوما منه قبل أربع سنوات ولا يوجد ما يمنعه من إعادة إحيائها بثوب مختلف ومضمون مشابه.
العام 2025 ومع غموض المآلات النهائية لأجنداته، إلا أنه سيشهد أحداثاً ووقائع تفسد على الإسرائيليين ما يرونها إنجازاتٍ نوعية لمصلحة تشكيل الشرق الأوسط الجديد وفق مقاساتهم الخاصة.
أولها وأهمها القرار الفلسطيني المجمع عليه صموداً ومواجهة، وأساسه بقاء الملايين على أرض وطنها وهذا ما كان في الماضي، وهو في الحاضر وسيظل في المستقبل معضلة إسرائيلية لا حل لها.
إن الناس في الوطن الفلسطيني في الأيام الأخيرة من العام الصعب، ورغم الأهوال التي فُرضت عليهم إلا أن أحداً منهم لا يفكر بإخلاء ساحة الوطن للإسرائيليين، وما يجري الآن رغم صعوبته هو نسخة طبق الأصل عما جرى في العام 1967، حيث الانكسارات الفادحة والانتصارات الإسرائيلية على كل الجبهات إلا أننا وبعد مرور أكثر من نصف قرن على "الانتصار الإسرائيلي" ما نزال نرى إسرائيل تعاني من العقدة الصعبة والمستحيلة التي اسمها الفلسطينيون، وقضيتهم، واصرارهم على حريتهم واستقلالهم.
الخلاصة... وما دمنا بصدد الحديث عن عامٍ مضى وآخر بدأ، فالذي مضى كان صعباً علينا وعلى خصومنا، أمّا الغموض الذي يلف العام الجديد فهو كذلك علينا وعلى خصومنا، وبين الصعب والغامض يتواصل الصراع.