الكاتب:
جورج كارلوس قنواتي
في دراسة لسيكولوجية الجماهير، يتبيّن تأثّر الجمهور بكمّ كبيرٍ من المعلومات والأفكار لفترة طويلة من الزمن، وتُصبح هذه المعلومات والأفكار في نطاق اللاوعي الذي سيؤثّر على قرارات الجمهور مستقبلاً وتجعلها في النهاية مسلّمات يدافع عنها الإنسان ويعتبرها قناعات يؤمن بها ومن الصعب جدّاً تغييرها، وتُعتبر وسائل الإعلام واحدة من أهمّ الأدوات التي تبثّ كمّاً هائلاً من المعلومات للجمهور وتؤثّر في رأيه.
كصحفي أنادي دوماً بحرية الصحافة، ولا أسمح أبداً المساس بهذه الحرية، كما أنّي على يقين بأنّ كل وسيلة اعلامية لها أهدافها التي تحددها الجهة المسؤولة عنها، والمعلومات التي تبثّها تنبع من هذه الأهداف، وفي النهاية تبثّ أي وسيلة إعلامية ما يرغب القائمون عليها إعلامه للجمهور، ولا أريد أن أدخل في نقاش أكبر حول هذا الموضوع،فهناك مؤيّدون كما المعارضون، ولكن كلّي يقين بأنّ وسائل الإعلام تلعب دوراً مهماً في تحريك الجمهور لهذا الجانب أو ذاك.
لا أرغب من مقدّمتي هذه سوى القول بأنّ القناعة التي تتشكّل لدى الجمهور ناتجة عن سنوات طويلة وشلال معلومات لا يتوقّف يؤثّر على أي قرار حاضر أو مستقبلي لكلّ مواطن، وهذا ما نراه مما يحدث في مخيم جنين في الآونة الأخيرة، والآراء المختلفة حول مما يحدث سواء الدعم لما تقوم به المؤسسة الأمنية أو رفضاً له، كما مثلاً تأييد وقف بثّ قناة الجزيرة في فلسطين أو معارضته.
اعتادَ كثيرون انتقاد المؤسسة الأمنية ودورها، وكلنا يعلم أنّ الاحتلال يتحكّم في كلّ مناحي حياتنا، وتحاول الأجهزة الأمنية القيام بدورها رغمّ كل الظروف الصعبة المحيطة، فهم أبناؤنا، إخوتنا وأخواتنا، آباء وأمهات، وهبوا أنفسهم لخدمة وطنهم، ونرى بطولات كثيرة للعاملين في هذه الأجهزة رغم الانتقادات التي يتعّرضون لها، فواجبهم هو حماية أبناء وطنهم لا غير.
وفي جنين، مخيمٌ نفتخر به وبأبنائه، كما نفتخر ببطولات أبنائه وتاريخه الطويل في مقارعة الاحتلال حتى أصبح أيقونة للمقاومة في العالم، فيما دعمت السلطة الفلسطينية المخيم وأهله، وعلى سبيل المثال وفّرت المؤسسة الأمنية مراكز تحفيظ القرآن الكريم في المخيم، وأعادت بناء البيوت التي هدمها الاحتلال ووزعت الطرود الغذائية، بالإضافة إلى بناء مشاغل يدوية ومخبز لتشغيل أبناء المخيم، ووفّرت مركزاً طبياً يقدّم العلاج الطاريء واللازم لأهالي المخيم.
ولكن ماذا يحدث في الآونة الأخيرة؟ أيُعقل أن تقف السلطة الفلسطينية ضدّ أهالي المخيم؟ أيُعقل أن تقتل الأجهزة الأمنية مقاوماً للاحتلال؟ لا اعتقد أبداً أنّ اليدّ التي قدّمت المساعدة أمس هي ذاتها التي تهدم اليوم.
لنعود إلى الفيديوهات التي انتشرت مؤخراً على وسائل التواصل الاجتماعي ونتساءل، هل نعطي أطفالنا الصغار الذين لا تتعدّى أعمارهم 10 أعوام السلاح ليقتلوا أبناء وطنهم؟ هل شعبنا اعتادَ على التهديد بتفجير أشخاصٍ لأنفسهم بأبناء جلدتهم؟ أنسمحُ بأن "نقف مَع" من يهدد ويطالب "بالخاوة" فيما "نقف ضد" مَن يدافع عن الوطن وأبنائه؟هل "نقف مَع" مَنْ يُوقِف الحياة في مخيم جنين ويصادر حرية أهله و"نقف ضد" مَن يدافع عن حرية أهله وإعادة الحياة الآمنة إلى طبيعتها؟ كثيرون ينتقدون المؤسسة الأمنية بسبب فشلها في تحقيق الأمن ووقف الخارجين عن القانون، وعندما تحاول تحقيق هذا الأمن تتعرّض لانتقادات لاذعة تصل لحد تشويهها.
إنّ البوصلة يجب أن تكون موجّهة للاحتلال، وكلنا شهدنا دورَ المخيم، كما الكثير من المخميات والمدن الفلسطينية في التصدي للاحتلال وغطرسته، مقاومة جعلت العالم يقف معنا فهي تؤكّد على حقّنا في تحقيق مصيرنا وفق ما أكّدت عليه القوانين الدولية، ولكن السلاح المستخدم الآن ليسَ موجّهاً للاحتلال وإنما موّجها لأبناء شعبنا، فأبناء المؤسسة الأمنية هم الجزء الأصيل والأساسي من هذا الشعب.
لقد عيّنت المؤسسة الأمنية ناطقاً رسمياً لقوى الأمن الفلسطيني يتحدّث بكل شفافية وببيانات يومية عمّا يحدث، ويُعلن المعلومات التي تتوفّر لدى الأجهزة أولاً بأول، يقدم حقائق وليسَ روايات، ولكنّه يتعرّض لانتقادات لاذعة ليسَ لشيء سوى لأنه متحدّث بإسم الأمن، وهذا ما شكّلته المعلومات المضللة التي أصبحت، للأسف، قناعة لدى الجمهور؛ ولو كانت المعلومات التي ينشرها هي ذاتها توفّرها وسيلة إعلامية ما أو جهة أخرى لهللّ كثيرونَ لها وأيدوها.
يكفي مثالاً بسيطاً، بعد ارتقاء الصحفية شذى الصباغ بدقائق، بدأت وسائل الإعلام ببثّ معلومات للجمهور تُفيد بأنّ أفراد الأمن هم مَن قتلوها، وفي المقابل أشارَ الناطق الرسمي لقوى الأمن بأنّ أفراد الأمن لم يتواجدوا في الموقع ولم يقتلوها! ولكن، ماذا حدث؟ انساقَ الجمهور مع الرواية التي بثتها وسائل الإعلام بدون أي تحقق منها، ورفض ما قاله المتحدث ، وهنا اللاوعي أصبحَ مسلّماً وأصبحت الوسيلة الإعلامية تؤثّر في قرار الأفراد، واؤكّد بأنّ الأجهزة الأمنية لن تمنح أي حصانة لأي فرد يقتل أبناء شعبه وستحاسب أي فرد إنْ توصّلت التحقيقات إلى مسؤوليته عن قتل الصحفية شذى أو غيرها، لكن مَن سيحاسب الخارج عن القانون الذي قتل أبناء المؤسسة الأمنية؟
وفي ذات الإطار، كثيرون ينتقدون حتى كلمة شهيد على ابن المؤسسة الأمنية الذي يُقتل برصاص الخارجين عن القانون، ويرفضون حتى الترحّم عليه، وجنازته تكاد تكون خالية من وسائل الإعلام التي تدّعي بثّ الحقائق كاملة، فالحقيقة عندها جزئية وليست كاملة إذاً! وفي ذات الوقت أصبح أبناء أفراد المؤسسة الأمنية يتعرّضون للتنمّر من قِبل أطفالٍ آخرين في المدارس.
إنّ المؤسسة الأمنية في أي دولة هي الدرع الحامي لشعبها، وثقتي بمؤسستنا الأمنية بأنّها ستكون السدّ المنيع لأبناء الشعب الفلسطيني بكافة أطيافه، حتى لو قلل الاحتلال من دورها أو منعها من تأديته، حتى لو هاجمتها الوسائل الإعلامية لأهدافها التحريضية لا غير، وسيبقى فرد الأمن هو الحامي والضامن للحرية.
وسأقدّم هنا مقارنة أخيرة، في الوقت الذي لا تستطيع فيه الحكومة توفير الرواتب كاملة للموظفين كما لأبناء المؤسسة الأمنية، نجد أنّ افراد الأمن دوماً على رأس عملهم، ويقومون بواجبهم إيماناً منهم بدورهم وواجبهم والأوضاع الصعبة المحيطة، حتى لو كان ذلك على حساب عائلاتهم،ومنهم مِن مخيم جنين نفسه.
وفي المقابل نَجِد مَن يسمي أنفسهم "مقاومون" لديهم أموالاً طائلة لا تُعَد، والمعلومات المتوفّرة لدي تُشير إلى امتلاكهم لعقارات ومركبات، ومطلوبون في قضايا جنح وقضايا جنائية وهاربون من القضاء، فهم يأتمرون من غيرهم، من دولٍ وأشخاص يحاولون التدخّل في الداخل الفلسطيني والتأثير به سلباً، وهذه الأموال ما هي إلا وسيلة للتشجيع على الهدم وليسَ البناء، وشاهدنا مراراً التدخّل الخارجي في الشأن الداخلي، فهو يهدم ولا يبني.
لا أقول أنّ المؤسسة الأمنية قادرة على الوقوف في وجه الاحتلال، إذ نرى دولاً كبيرة وعظمى ولديها عتاداً عسكرياً كبيراً ومتطوراً لم تُطلق رصاصة واحدة عليه، حتى إيران نفسها التي أطلقت صواريخ عليه ذهبت إلى الأمم المتحدة لتطلب التهدئة قبل وصول الصواريخ ذاتها إلى كيان الاحتلال، ونشاهد جميعاً الدمار الكبير في قطاع غزة والمجازر التي يرتكبها الاحتلال هناك وهدم البيوت والتشريد والمجاعة ومنع وصول المساعدات، حيث تحاول المؤسسة الأمنية منع ما يحدث في غزة من أن يتكرر في الضفة الغربية انطلاقاً من قراءتها للواقع الحالي، وقرارها واضح في هذا الشأن، ذلك مع التأكيد على المقاومة الشعبية التي أكّد عليها فخامة الرئيس أبو مازن دوماً، رغم سعي جهات عديدة لجرّ الضفة إلى مسارٍ لا يحمد عقباه.
لقد تعرّضتُ قبلَ عدّة أيام لانتقادات وصلت حد التهديدات لوقوفي بجانب الأجهزة الأمنية، ومَع مَن سأقف؟ سأقف مع من يدافع بوسائل بسيطة متاحة عن شعبه، سأقف مع مَن يرتقي هو يدافع عن أبناء شعبه، سأقف مَع من يسعى لتوفير الأمن لأبنائه رغمّ كل الظرف الصعبة.
وكلّي يقين بأنني سأتعرّض لانتقادات أيضاً بعد نشر هذا المقال، ولكن أطلب من الجميع أن يترووا، أن يبحثوا عن الحقيقة أولاً، ولا ينساقوا وراء الذباب الالكتروني الذي يبث أفكاراً مسمومة تُصبح حقيقة راسخة لدى كثيرين يدافعون عنها بدون وعي.