الكاتب: وائل زبون
لم يكن عام 2024 كأي عام مرَّ على غزة. هذه الأرض الصغيرة التي لم تعرف الهدوء منذ عقود، والتي باتت تُجسد رمزًا للصمود الإنساني، شهدت على مدار هذا العام سلسلة من الأحداث الدامية التي تركت جروحًا أعمق في جسدها المنهك، وأكدت للعالم أن الاحتلال الإسرائيلي لا يزال يمعن في سياساته الاستعمارية دون أن يلقى أي رادع أو مساءلة. في كل زاوية من شوارع غزة، بين الأنقاض التي كانت يومًا بيوتًا آمنة، وفي أعين الأطفال الذين فقدوا أهلهم وألعابهم وأحلامهم، تكمن قصة معاناة تفوق قدرة الكلمات على الوصف.
غزة، التي كانت في يوم من الأيام مليئة بالحياة والحركة، أصبحت اليوم مسرحًا للدمار والخراب. الأحياء التي كانت تضج بضحكات الأطفال تحولت إلى أنقاض صامتة، والجدران التي كانت شاهدة على قصص عائلية أصبحت مجرد حجارة مكسورة. في هذا العام، لم تكن المأساة مجرد أرقام أو أخبار عابرة، بل كانت واقعًا يعيشه كل فرد في غزة. من المرأة التي تبحث بين الركام عن بقايا منزلها، إلى الأب الذي يحمل طفله المصاب بين يديه في سباق مع الزمن للوصول إلى مستشفى بالكاد يستطيع العمل تحت وطأة الحصار.
لقد عمّقت هذه الأحداث الشعور بالعجز لدى سكان غزة، ليس فقط بسبب القصف المستمر الذي لا يفرق بين طفل وشيخ أو بين منزل ومستشفى، بل أيضًا بسبب صمت العالم الذي يبدو وكأنه تخلى عن مسؤوليته الأخلاقية تجاه هذه الأرض. مع كل يوم يمر، يتكشف المزيد من البشاعة: أحياء بأكملها تُمحى عن وجه الأرض، عائلات تُفقد دون أثر، ومستقبل يبدو أكثر قتامة من أي وقت مضى.
تصعيد لا يعرف الرحمة
منذ بداية العام، بدأت غزة تتعرض لوابل لا ينقطع من القصف الذي لم يكن عشوائيًا بقدر ما كان منهجيًا ومدروسًا بعناية. كانت الأحياء السكنية هدفًا رئيسيًا لهذا الدمار، حيث اختفت عائلات بأكملها تحت الأنقاض في لحظات. دُمرت المستشفيات التي كانت بالكاد تعمل تحت وطأة الحصار الطويل، وتحولت غرف العمليات إلى ساحات يائسة، حيث يكافح الأطباء بأدوات ومعدات شحيحة لإنقاذ أرواح معلقة بين الحياة والموت.
لم يكن القصف يميز بين ما هو مدني وعسكري، بين طفل نائم في حضن والدته وبين مسنٍّ يبحث عن ملجأ آمن. في يوم من الأيام، سقطت قذيفة على منزل صغير لتدفن تحته طفلًا صغيرًا كان يحتضن دميته. ذلك المشهد لم يكن مجرد مأساة فردية، بل رمزًا لبشاعة العدوان الذي يُفرغ غزة من إنسانيتها.
وفي وسط هذا الدمار، لم يغِب الخطاب الإسرائيلي الذي كان حاضرًا كالسيف المسلط على كل محاولة لانتقاد هذا العنف. تحت شعار "الدفاع عن النفس"، تحول القتل الجماعي إلى إجراء مبرر ومقبول دوليًا. حياة الملايين اختُزلت في "خطر أمني" يجب القضاء عليه، وتحوّلت غزة بأسرها إلى ساحة يُمارس فيها الاحتلال سياسة العقاب الجماعي دون أدنى مساءلة. هذا الخطاب لم يكن مجرد وسيلة لتبرير العدوان، بل كان أداة لطمس حقيقة الجرائم وتشويه صورة الضحايا أمام العالم.
الخطاب الاستعماري: أداة للنفي والتبرير
اللغة التي يستخدمها الاحتلال الإسرائيلي ليست مجرد كلمات تُقال في سياق إعلامي، بل هي سلاح فتاك يُستخدم لقمع الفلسطينيين وتبرير الجرائم. مصطلحات مثل "القضاء على البنية التحتية للإرهاب" و"الدروع البشرية" ليست عبارات عابرة، بل أدوات استراتيجية تهدف إلى شرعنة القتل الجماعي واستهداف المدنيين الأبرياء. في عام 2024، تجلى هذا الخطاب بوضوح كوسيلة لتجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم وتقويض أي تعاطف دولي قد يُثار تجاه معاناتهم.
استخدام الاحتلال لمصطلح "جز العشب" لم يكن مجرد تعبير، بل هو انعكاس لعقلية استعمارية باردة تتعامل مع حياة الفلسطينيين كأرقام يجب تقليصها، وكأنهم مجرد عبء على جدول إحصائي. هذا الخطاب لا يقتصر على تبرير القتل، بل يسعى إلى تشكيل رواية تُسكت الأصوات المعارضة وتُطمئن الداعمين الدوليين بأن الأمور تحت السيطرة، مما يضفي شرعية زائفة على سياسات الاستعمار والقهر.
لكن الحقيقة تظهر بوضوح في كل مرة يُقصف فيها حي في غزة، وفي كل مرة تُمحى فيها عائلة بأكملها من الوجود. تسقط هذه المصطلحات المصطنعة أمام هول المشاهد لتكشف حقيقتها: أدوات استعمارية تهدف إلى السيطرة وتبرير العنف. إنها لغة تُعيد إنتاج الظلم، تُقنن الموت، وتُغلف الجرائم بغلاف من الأكاذيب التي لا تصمد أمام صرخات الضحايا ودموع الناجين.
تقاعس عالمي وصمت يقترب من التواطؤ
بينما كان الدخان يتصاعد من أحياء غزة المدمرة، كانت بيانات "القلق العميق" تُصدر من العواصم العالمية. كلمات جوفاء لا تحمل أي معنى حقيقي، تناثرت على أسماع الفلسطينيين الذين كانوا يواجهون أهوال القصف والتدمير. القادة الدوليون، الذين دأبوا على تكرار مقولة "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، لم يتحدثوا ولو لمرة واحدة عن حق الغزيين في الحياة، عن حق الأطفال في النوم دون خوف، وعن حق الأسر في أن تعيش بكرامة بعيدًا عن شبح الموت.
في مجلس الأمن، ظل العجز سيد الموقف، حيث كانت القرارات الدولية تُدفن تحت وطأة حق النقض الأمريكي الذي بات الحاجز الدائم أمام أي محاسبة حقيقية أو أي خطوة نحو تحقيق العدالة. مشاهد الموت والدمار في غزة لم تكن كافية لتحريك الضمائر، بل كانت تُواجه بصمت دولي مطبق يُغلفه خطاب مزدوج يُفرّق بين الضحايا بناءً على هويتهم.
لكن القمع لم يتوقف عند حدود غزة. في الغرب، شُنت حملات واسعة النطاق لتقييد حرية التعبير واستهداف كل من تجرأ على انتقاد الاحتلال الإسرائيلي. الناشطون والحقوقيون، الذين وقفوا دفاعًا عن حقوق الفلسطينيين، وجدوا أنفسهم في مواجهة اتهامات معاداة السامية التي أُلصقت بهم بشكل ممنهج. هذا القمع لم يكن مجرد مصادفة، بل كان جزءًا من منظومة متكاملة تهدف إلى إسكات الأصوات المعارضة وخلق غطاء إضافي يُبرر التوسع الاستيطاني والجرائم التي تُرتكب بحق الفلسطينيين.
كانت هذه السياسات الغربية أشبه بشبكة محكمة تُحيط بأي محاولة لإبراز الحقيقة. ففي الوقت الذي كانت فيه غزة تُقصف، كان العالم الحر يقصف بدوره كل من يدافع عنها، ليترك الفلسطينيين وحيدين في مواجهة آلة القمع، سواء على أرض الواقع أو في ساحة الخطاب العالمي.
غزة: قصة الصمود الذي لا ينكسر
رغم القصف والدمار، ورغم الموت الذي خيم على كل زاوية، لم تستسلم غزة. كانت المدينة، التي تُركت وحيدة في مواجهة آلة الحرب، تُظهر للعالم أن الحياة أقوى من الموت، وأن الإرادة لا تُقهر. بين الركام، حيث تحولت البيوت إلى أطلال، ووسط الدماء التي ملأت الشوارع، وداخل المستشفيات المزدحمة التي تعاني من نقص الإمدادات، برز الفلسطينيون كأبطال يقاومون الظلم بأبسط الوسائل. لم تكن المقاومة فقط بالسلاح، بل كانت بالصبر، بالصمود، وبالإصرار على البقاء.
المجتمع المدني في غزة كان خط الدفاع الأول في معركة توثيق الحقيقة. في كل جريمة، في كل قصف، كانت العدسات تلتقط الصور، والقلوب المثقلة بالألم تُرسل الصوت إلى العالم. كل صورة، كل فيديو، كل شهادة كانت تقول للعالم: نحن هنا، نحن لا ننكسر. كان الفلسطينيون يحولون الألم إلى رسالة، والدمار إلى صرخة تتجاوز حدود غزة لتصل إلى كل أرجاء العالم.
وفي الخارج، كان الشتات الفلسطيني يجسد معنى النضال في المنفى. لعب أبناء الشتات دورًا حاسمًا في إبقاء القضية حية. من المظاهرات التي اجتاحت عواصم العالم، حيث علت أصواتهم تطالب بالعدالة، إلى الحملات الرقمية التي غزت وسائل التواصل الاجتماعي، تم نقل الرواية الفلسطينية إلى الساحة الدولية.
كانت هذه الحملات الرقمية بمثابة ساحة معركة جديدة، حيث استطاع الفلسطينيون، بفضل إصرارهم وتفانيهم، أن يظهروا الحقيقة كما هي، بعيدًا عن التزييف الإسرائيلي. أضاءت هذه الحملات زوايا مظلمة حاول الاحتلال طمسها، وأثبتت للعالم أن الكلمة والصورة يمكن أن تكون أقوى من القذيفة. لم تكن هذه الجهود مجرد أفعال عابرة، بل كانت جزءًا من نضال مستمر يحمل في طياته أملًا بمستقبل أفضل.
غزة، رغم كل ما تعرضت له، كانت وستظل رمزًا للصمود والإصرار على الحياة، درسًا للعالم في كيف يمكن للإنسان أن يقف، حتى عندما يحاول الجميع إسقاطه.
نداء إلى الإنسانية
مع نهاية عام 2024، تقف غزة كجرح مفتوح وشاهد حي على فشل الإنسانية في أبهى تجلياتها. إنها ليست مجرد مأساة فلسطينية تُضاف إلى تاريخ طويل من النكبات والآلام، بل هي اختبار عالمي عرّى القيم الأخلاقية وفضح ازدواجية المعايير. كيف يمكن لعالم يدّعي التقدم والتحضر أن يصمت بينما تُباد أرواح بريئة بشكل منهجي؟ كيف يمكن للمجتمع الدولي أن يشيح بنظره بعيدًا بينما تُمحى أحياء بأكملها من على وجه الأرض، وتُدفن أسر بأكملها تحت الركام؟
قصة غزة ليست مجرد قصة حصار وقصف، بل هي رواية عن معاناة شعب أُجبر على الحياة تحت ظروف لا تُحتمل، في ظل حصار خانق يحرمهم من أبسط مقومات الحياة. إنها حكاية الأطفال الذين نشأوا في ظل طائرات الاحتلال وأصوات الانفجارات، النساء اللواتي فقدن أحباءهن، والشيوخ الذين عاشوا ليروا مدينتهم تُهدم مرة بعد أخرى.
غزة لا تطلب شفقة ولا دموعًا تُذرف من بعيد، بل تطلب عدالة. العدالة التي تبدأ برفع هذا الحصار الجائر الذي خنق كل جوانب الحياة، العدالة التي تتجسد في محاسبة كل من اقترف الجرائم بحق هذا الشعب، العدالة التي تعني إنهاء الاحتلال الذي دام لعقود طويلة وألقى بظلاله القاتمة على مستقبل أجيال بأكملها.
صرخة غزة في عام 2024 ليست مجرد نداء للحرية؛ إنها صرخة يأس واستغاثة للعالم لإعادة اكتشاف ما تبقى من إنسانيته. إنها دعوة للمجتمع الدولي أن يقف أمام مرآة الحقيقة ويسأل نفسه: كيف سمحنا بأن يصل الحال إلى هذا الحد؟ إنها دعوة إلى القادة الذين يتغنون بالسلام والعدالة أن يثبتوا أن كلماتهم ليست مجرد شعارات جوفاء.
غزة تقول للعالم: نحن لا نريد أن نبقى رمزًا للألم والدمار. نريد أن نعيش بكرامة، أن نرى أطفالنا يكبرون في عالم لا تسوده الطائرات والدبابات. نريد أن نحلم مثلما يحلم أي إنسان في هذا العالم. ولكن، هل سيستجيب العالم؟ أم أن غزة ستظل وحيدة، تدفع الثمن عن صمت العالم ونفاقه؟
عام 2024، بكل ما حمله من آلام، هو تذكير للجميع بأن العدالة ليست خيارًا بل ضرورة، وبأن غزة لن تتوقف عن الصراخ حتى تُسمع أصواتها، وحتى يتحقق ما طال انتظاره: حياة بلا قهر، بلا حصار، وبلا احتلال.
غزة تستقبل عام 2025: أمل ممزوج بالألم
مع انبلاج فجر عام 2025، تقف غزة عند مفترق طرق بين الألم المتجدد والأمل العنيد. المدينة التي اعتادت استقبال الأعوام الجديدة تحت أضواء الانفجارات بدلًا من الألعاب النارية، تستقبل هذا العام بعيون تترقب ما قد تحمله الأيام المقبلة. في كل شارع مدمر، وفي كل منزل فقد أهله، ينبض قلب غزة بإصرارها على البقاء، على الرغم من الجراح التي لم تلتئم. عام 2025 يبدأ وغزة تحمل في طياتها ذكريات عامٍ مضى كان حافلًا بالمآسي، لكنها لا تزال تمتلك قدرة استثنائية على الصمود. رغم استمرار الحصار، ورغم غياب أي بوادر حقيقية لإنهاء الاحتلال، يظل أهل غزة يحلمون بواقع أفضل. المدارس التي أُعيد بناؤها بمواد بسيطة، المستشفيات التي تكافح لتوفير أدنى مستويات الرعاية، والأسواق التي عادت لتفتح أبوابها وسط الدمار، كلها شواهد على أن غزة لا تنكسر. لكن الأفق ليس خاليًا من التحديات. القصف قد يتجدد في أي لحظة، والمجتمع الدولي قد يواصل تجاهله للجرائم المستمرة، لكن غزة، كما كانت دائمًا، تستعد لهذا العام بعزيمة لا تلين. الأطفال، رغم كل شيء، ما زالوا يذهبون إلى المدارس حاملين دفاترهم وأحلامهم، والنساء يواصلن بناء الحياة رغم كل الخسائر. عام 2025 قد لا يكون مختلفًا كثيرًا عن الأعوام السابقة، لكنه يحمل في ثناياه رسالة أمل: أن النضال من أجل الحرية والكرامة لا يمكن أن يُقهر، وأن غزة ستظل شاهدة على الظلم لكنها أيضًا ستظل رمزًا للصمود والإصرار على الحياة.