الثلاثاء: 07/01/2025 بتوقيت القدس الشريف

قراءة في مشروع إعدام مستقبل غزة من زاوية مفهومي الأمن القومي الفلسطيني والإسرائيلي

نشر بتاريخ: 06/01/2025 ( آخر تحديث: 06/01/2025 الساعة: 08:32 )

الكاتب: العميد: أحمد عيسى

للوهلة الأولى تجعل فظاعة جرائم الإبادة الجماعية التي ينفذها جيش الإبادة الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة على مدى الخمسة عشر شهرا الماضية من المشروع القول أن إسرائيل الإبادية إنما تنفذ مشروع هدفه القومي هو إعدام مستقبل غزة.

لكن قراءة ما ينفذ من جرائم من زاوية مفهوم الأمن القومي الفلسطيني وكذلك الإسرائيلي تجعل من إطلاق مفهوم إعدام المستقبل على غايات هذه الجرائم فيه مغالطة تنطوي على مبالغة ربما تكون غير مقصودة.

فمن منظور فلسفي وجودي فالأمر يتعلق بالزمن، والزمن يتدفق نحو المستقبل دائماً، الأمر الذي يعني أن إعدام المستقبل مستحيل طالما هناك زمن يتدفق نحو المستقبل، ويعتبر الفيلسوف الألماني المشهور مارتن هايدغر الذي يعتبر من أبرز فلسفة القرن العشرين ومن مؤسسي الفلسفة الوجودية قد ناقش في كتابه "الوجود والزمان" العلاقة بين الإنسان والزمن وكيفية فهمه للزمن والمستقبل.

ومن منظور ديني إسلامي فكرة إعدام المستقبل وتسليم الخلق والعباد بها مرفوضة تماما، لأن الأمل والعمل والتغيير جزء من الإيمان بحقيقة أن الإنسان أو الخلق جميعا لا يمكنهم إعدام المستقبل، لأن الله سبحانه وتعالى هو من يملك الزمن ولا يمكن لعباده التحكم في مجرياته بل عليهم العمل في حاضرهم لتحسين مستقبلهم الذي يعني الآخرة حيث يجازى الإنسان على أعماله في الدنيا حيث قال سبحانه وتعالى "وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون" العنكبوت 64.

ومن منظور الأمن القومي الفلسطيني على الرغم من عدم نجاح الفلسطينيين في تطوير مفهوم مجمع عليه حتى الآن لأمنهم القومي وجعله الأداة الناظمة لتحديد إستراتيجياتهم وسياساتهم، إلا أن أصغر الفلسطينيين سناً يدرك أن الهدف القومي الأول الذي يحمي أمنهم القومي هو الخلاص من الإستعمار الإستيطاني المجرم الذي تجاوز وصفه بالأبارتهيد وانتقل لمرحلة الإبادية، فجرائم الإبادة التي تنفذ ضدهم في ظل الصمت المريب للقريب والبعيد وعلى الرغم من أثمانها الباهظة، إلا أنها تستحضر من داخلهم عزمهم وإصرارهم على هزيمة المجرمين وشركائهم بصمودهم وإصرارهم نحو صناعة مستقبل أفضل.

أما من منظور مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي وتحديدا وفقا لمعادلة الأمن القومي الإسرائيلي التي طورت تأسيسا على المفهوم فإن الغايات القومية هي التي تحدد الوسائل وفقا للقدرات القومية، وعليه فإن (إعدام مستقبل غزة) من خلال إستخدام أسلحة ومتفجرات تحمل مواد سامة لتسميم تربة غزة وتحويلها الى منطقة غير صالحة للحياة الإنسانية وطاردة لسكانها ينطوي على غباء في تطبيق معادلة الأمن القومي للدولة لأن في ذلك (إعدام لمستقبل) إسرائيل خاصة المناطق المحاذية لقطاع غزة من الشرق والشمال، ومن جهة أخرى تصبح سموم تربة غزة خطرا على الجيش الذي يبدو أنه يستعد ويتجهز للبقاء في غزة لفترة طويلة، فضلا على أن تربة غزة تصبح غير صالحة لمخططات اليمين القومي والمستوطنين للإستيطان في غزة كما يعلنون صبح مساء.

تستحضر حالة غزة المدمرة من التاريخ نموذج قرطاج والرومان، حيث كانت الأولى العائق الأبرز أما الإمبراطورية الرومانية من فرض سيطرتها على افريقيا، مما دفع الرومان الى زراعة أرض قرطاج التونسية بالملح بعد احتلالها العام 146 قبل الميلاد لإجبار سكانها المقاومين الى مغادرت، إلا أن الإمبراطورية الرومانية اندثرت من التاريخ وظلت قرطاج حاضرة ومأهولة بالسكان وأرضها صالحة للزراعة ورمزا من رموز الثقافة العالمية.

وحول معالجة ركام غزة المدمرة فهي التحدي الأساس ليس أمام الفلسطينيين فحسب بل أمام العالم الظالم قبل الفلسطينيين فهو المطالب بمعالجة هذا التحدي الأكبر الذي يواجه عالم قد كشفت الجريمة قبح وجهه وزيف القيم التي يدعي أنه يقوم عليها.

أما حول دور الفلسطينيين في هذه المعالجة فأوصي في هذه المقالة أن يصمم الفلسطينيون على الإحتفاظ بجزأ من الركام وما يحتوي من مخلفات للشهداء والناجيين في منطقة محددة من مساحة غزة الصغيرة وتحويل هذه المنطقة الى متحف ومزار وشاهد على الجريمة اليهودية الإسرائيلية، ومحفز ودافع لزيادة الإصرار الإنساني على معاقبة المجرمين وعمل ما يلزم لمنع تكراره في المستقبل الذي لا يمكن إعدامه، تماما كما هو دور معسكر أوشوفيتز في بولندا ومتحف الهلوكوست في واشنطن.