الكاتب: د. أحمد رفيق عوض
لا يكف نتانياهو وجوقته عن ترديد الشعار القائل بضرورة تغيير الشرق الأوسط ، وهو مفهوم استعماري قديم بدأ منذ بداية القرن الماضي واتخذ أسماء مغرية و ملتبسة أيضاً، كان آخرها ما أشار إليه نتانياهو حيث قسم المنطقة إلى دول نعمة ودول نقمة ، وهي رؤية أخرى تعيد إنتاج البلقنة والفوضى الخلاقة وتفكيك العالم العربي وسايكس بيكو وسان ريمو، تفكيك بلادنا كان دائماً حلماً من أحلام المستعمرين منذ غزوات الفرنجة في القرن الحادي عشر، فهم يعتقدون أننا لا نرقى إلى مرحلة تشكيل الشعوب أو الدول، بل نحن مجرد قبائل بدائية بعقليات متخلفة وغبية ويمكن التحكم بنا كالقطعان أعزكم الله.
المهم هنا ، أن نتانياهو الذي يريد أن يغير الشرق الأوسط إلى دول مقبولة وأخرى مرفوضة، إنما يعني في نهاية الأمر أن يدمر تلك الدول التي تضطرم بالنقمة وأن يتحالف مع تلك الدول التي تنعم بالبركات والرحمات ، يهدف الرجل أن يعيد تركيب الديموغرافية العربية والجغرافيا السياسية ، هو يريد أن يسمي الأشياء من جديد، وأن يخلق كيانات وينشئ جيوباً وأقاليم جديدة ضعيفة وهشة تعتمد عليه في كل شيء. يريد الرجل أن يكون سيد المنطقة وحاميها وقائدها وملهمها والمايسترو الذي يتحكم باتجاهاتها وسلوكها.
يكتشف هذا الرجل أن اللحظة التاريخية مناسبة جداً لتفكيك المنطقة كلها حتى لا يضطر إلى الاعتراف بدولة فلسطينية حرة ومستقلة ، وأنه يستطيع محاربة كل الساحات حتى يدخل في قلب الشعب الفلسطيني اليأس والاحباط، وكأنه يريد القول أن السلام لم يعد ممكناً على الاطلاق، وأن الظرف الزماني والمكاني يتطلب فرض تسوية أمنية لا سياسية ، بكلمات أخرى ، فإن نتانياهو بما يمثل من حمولة فكرية وعقائدية استعمارية واستعلائية يرى أن السلام أو التسوية بمعنى الندّية والتشاركية بما تتضمن من إقامة دولة فلسطينية لم يعد ممكناً بعد كل الذي جرى، وأنه لا بد الآن من استخدام القوة بمعناها الواسع، السياسي والديني والعسكري والإعلامي.
اسرائيل، مدفوعة ومحمية من الغرب الاستعماري الذي يقف على رأسه الولايات المتحدة الأمريكية تريد أن تستعيد كل ما خسرته بعد السابع من أكتوبر من عام 2023، وليس هذا فقط ، بل أن تفكك ما حولها وتهيمن عليه وتضبط إيقاعه بحيث لا يعود يهدد أو يحتمل أن يهدد. وتأسيساً على ذلك فإن اسرائيل لا تريد أن تقطع الطرق أو تصادر الثروات وتحتكرها أو أن تراقب عمليات التسليح فقط ، وإنما تريد أن تضبط لغة الإعلام وسياقات المناهج المدرسية ولغة الخطاب في الفضاء العام، وهي تريد أيضاً أن تصمم الأنظمة وعلاقاتها الداخلية والخارجية.
اسرائيل الآن تريد أن تخلق نموذجاً لم يوجد في التاريخ من قبل، أقصد ، الغازي الذي يريد يكون محبوباً ومقبولاً بالقوة وأن يتم تفهم معاناته ومكافأته على مظلمته، إسرائيل لا تريد أن تكون احتلالاً ليبرالياً أو احتلالاً متنوراً أو غير مرئي، لا، هي تريد احتلالأ وكأنه هدية الله إلى الناس ، أو أن هذا الاحتلال قدر إلهي لا بد منه، أكثر من ذلك ، هي تريد احتلالاً يعاند سيرورة التاريخ وينتصر عليه باعتباره فعلاً وإرادة الهية فوق القوانين والسنن، وهذا يعطيها الحق في تغيير المنطقة بالكامل بالتفكيك والاحتلال والابادة والتهجير والتهديد الدائم و تجريد الشعوب من مصادر ثرواتها ومقدراتها العسكرية ومنعها من التطور والتوحد والتكامل، ويعطيها الحق في ان تطلب ألا تحاكم أو تساءل أو تنتقد، ويعطيها الحق في أن تفرض على العالم كله أوهامها وأن يتم التعامل مع تلك الأوهام وكأنها حقائق، يعطيها الحق في أن تطلب من العالم أن يتم التعامل معها باعتبارها شاهدة على معجزة من معجزات الرب.
الآن ، ويعد خمسة عشر شهراً من الحرب على شعبنا ، فإن الحرب التي بدأت بأطراف وأهداف وتنتهي – اذا انتهت- بأطراف وأهداف أخرى، فإن اسرائيل بصدد وضع المنطقة كلها تحت جناحها وارتهان إرادتها وارادة شعوبها والسيطرة المباشرة وغير المباشرة على تطورها بحجة البحث عن الأمن وتوطيده وإنقاذ إسرائيل من مصائرها. إن هذا الفصل الجديد من تطورات الصراع العربي الإسرائيلي ينذر بدخول الإقليم كله في ما يمكن أن يسمى الحقبة الاسرائيلية.
والسؤال هو: هل هناك مشروع عربي لمواجهة هذه الحقبة بكل ما فيها؟! هل هناك استراتيجية موحدة للرد أو الاستيعاب أو المواجهة أو إحباط ذلك؟! بالمناسبة ، فإن غياب مثل هذا المشروع سيعني ببساطة أن كل من في المنطقة سيدفع ثمن أو ضريبة تلك الحقبة، كلٌ حسب موقعه ومن كلٍ حسب قدرته.