الكاتب: منتصر حمدان
حينما كان يثار في وقت سابق موضوع السلامة النفسية للصحفيين، كان الاغلبية يتعاملون مع ذلك على انه نوع من الترف والفذلكة" كونهم ويرون بأن طرح مثل هذا الموضوع ليس بالأهمية بل انه امر شخصي يعود على الصحفي نفسه وليس غيره.
حجم الاضرار والاعباء التي اثقلت كاهل الصحفيين بعد كل هذه السنوات الصعبة والمؤلمة منذ جائحة كورونا وما تبعها من حرب غير مسبوقة وما اشتملته من جرائم ومجازر طالت الحجر والبشر، بات موضوع الصحة النفسية يقع ضمن أولويات واجندات المؤسسات التي تتحصل على تمويل خارجي او تلك الساعية للحصول على التمويل حيث تجد مثل هذه المؤسسات فرصتها في هذا الملف المُثقل بالألم والمعاناة الفردية والجماعة فرصة تمويلية لا يجب اضاعتها.
وفي هذا المقام فإنه يتوجب علينا إطلاق "الصفارة “وعدم التردد في اعلاء الصوت، حول أهمية التصدي لأية محاولات للعبث او الاجتهاد في التعامل مع ملف الصحة النفسية للصحفيين، وضرورة تكريس الادارة المهنية في التعامل مع هذا الملف والتشدد على إخراجه من دائرة "المنافسة التمويلية" نظرا لحساسة هذا الملف ومتطلباته على المدى الطويل،،حيث أن التعامل مع ملف الصحة النفسية للصحفيين يستوجب ان يستند الى عنصرين رئيسين، اولهما انه حاجة فردية للصحفيين الذين تعرضوا للأذى والاضرار النفسية سواء من خلال تغطيتهم الاعلامية للأحداث الصعبة والمؤلمة او من خلال تغطيتهم وتحريرهم في غرف التحرير لمواد إعلامية تحوي على مشاهد مؤلمة وصعبة تركت آثارها على حالتهم النفسية ما يستدعي ابتداع طرق ووسائل وتدخلات تساعدهم في تخطي الازمات التي عايشوها وتساعدهم على التعافي ومواصلة عملهم الصحفي لان الخطورة في مواصلة عملهم دون اخضاعهم لبرامج متخصصة من الدعم والاسناد والاسعاف النفسي، تكمن في مخاطر انعكاس جروحهم النفسية على اعمالهم الصحفية والتأثير السلبي على المشاهدين او القراء.. الخ.
اما الامر الثاني يأتي من باب ان الصحفيين يؤدون خدمة عامة لجمهور عريض وبالتالي فإن ترك الصحفيين دون مساعدة على المستوى النفسي قد تشكل خطورة على جمهور واسع نتاج مخاطر الصدمة الثانوية " او الاصابات والجروح النفسية المتعددة.
ان المخاطر الناجمة عن إهمال الاحتياجات النفسية الحقيقية للصحفيين قد تأخذ اشكالا متنوعة ومتعددة ما يستوجب التدخلات على أكثر من مستوى وفي مقدمة هذه التدخلات يتمثل في إجراءات دراسات تشخيصية للوضع القائم فيما يخص الصحة النفسية للصحفيين، حيث تؤسس هذه الدراسة الى تحديد الاحتياجات والاولويات الواجب العمل عليها من خلال مجموعة تدخلات تساهم في مساندة ومساعدة الصحفيين على التعافي وضمان عدم اخراجهم من المهنة كضحايا للضغوط النفسية والاجهاد النفسي.
ورغم الكثير من المتطلبات لتحقيق الأهداف المرجوة للعمل من الصحفيين وتقديم الدعم والاسناد، الا ان متطلب توفير جهة حاضنة تحظى بثقة الصحفيين وتوفير كوادر مدربة ومؤهلة للقيام بمهام الدعم والاسناد تقف على رأس الأولويات مع انتشار فوضى المدعين بالاختصاص طمعا في جني المال المرتبط اغلبه بالتمويل الخارجي، ما يستدعي التدقيق والفحص لتجنب تعريض الصحفيين الضحايا الى برامج شكلية وهدر الوقت والمال وفتح الجراح دون تعافيها وأثر ملموس.
امام هذا الواقع فإننا امام الحاجة
لسياسات وطنية وتكامل في المسؤوليات والادوار للتعامل مع الاحتياجات النفسية للصحفيين وتوفير الدعم النفسي والاجتماعي للصحفيين الذين يواجهون ضغوطات كبيرة بسبب طبيعة عملهم في بيئات صعبة مثل واقعهم الراهن في قطاع غزة والضفة الغربية بما فيها القدس المحتلة، سيما مع تصعيد مستويات الاستهداف من قبل قوات الاحتلال والصراعات المستمرة.
ان وجود مثل هذه السياسة الوطنية التي يستوجب ان تقودها نقابة الصحفيين بحكم المسؤولية المهنية بالشراكة مع وزارة الصحة الفلسطينية واغلب المؤسسات الشريكة المستعدة لتحمل أعباء هذا الحمل الثقيل، تشكل قاعدة متينة لإطلاق برامج على مستوى الارشاد النفسي الاستباقي وتنفيذ برامج الدعم النفسي مع توفير جلسات دعم نفسي فردية أو جماعية للصحفيين لمساعدتهم في التعامل مع التوتر والضغط النفسي الناتج عن عملهم.
كما أن إطلاق حملات منظمة لزيادة الوعي وبناء ثقافة جديدة في التعامل مع الازمات والجروح النفسية تعتبر حاجة الى جانب التدريب على مواجهة المخاطر النفسية واليات التعامل معها من خلال تنظيم ورش عمل ودورات تدريبية للصحفيين حول كيفية التعرف على علامات التوتر النفسي والتعامل معها بفعالية والكشف عن علامات وأعراض الصدمات النفسية وأعراض ما بعد الصدمة.
ان كسب ثقة المستفيدين من خدمات الارشاد والدعم النفسي لا تقل أهمية عن كل ما سبق، لان الثقة والمصداقية تمثل قاعدة تأسيسية لنجاح الجهود المطلوبة في هذا المجال ويعطي فاعلية لاعتماد خطوط ساخنة لتوفر الدعم النفسي على مدار الساعة للصحفيين، ويعظم من أهمية العمل على توفير بيئة عمل آمنة ومراعاة الظروف النفسية للصحفيين عند التخطيط للمهام الصحفية، بما في ذلك تقليل التعرض للأحداث الصادمة مع أهمية تحمل المؤسسات الاعلامية مسؤوليتها في هذا الإطار من خلال تبني سياسات واضحة وجدية في التعامل احتياجات موظفيها الصحفيين بما في ذلك منح الصحفيين الذين يعانون من ضغوط نفسية شديدة إجازات علاجية أو فترات راحة لاستعادة عافيتهم النفسية.