الكاتب: دوسلدورف / أحمد سليمان العمري
يُحكى أنّ كاتبا حُرّا من ولاية نائية في أقصى شمال الخلافة الفئوية «عربستان» تُدعى «حورانلاند»، كان يعيش بسبب مواقفه وقلمه السحري تحت وطأة القمع، مثل جميع سُكّان الخلافة.
كان الهدف الوحيد الذي يسعى إليه الكاتب هي تحقيق أمنية الشعب في حياة كريمة والعيش على أمل نيلها وعيشها، في خلافة أثخن الظلم فيها وتوغّل المتنفّذون في جميع مرافقها حتى أعطبوها، وساد إحساس التهميش والتضييق الإقتصادي والتعليمي والصحي والسياسي والفكري بين الناس، وحوربت حرية التعبير وقوبلت بالترهيب بالإعتقال وتفصيل الأحكام بالسجن والغرامات المالية، فأثقل على قلوب الجماهير وأراوحهم لسنوات دون بارقة أمل لفجر جديد، بينما تعيش ثلّة من المُقربين وجُلّ ساسة الدولة والحرامية و «السرسرية» حياة رغد وبذخ ورفاهية، وكأنهم يعيشون في عالم افتراضي على حساب المعدومين وأهل الخصاصة والفقراء، والسّواد الأعظم في البلاد فقير، فخيّم الصمت على الخلافة وجثم الخوف على صدورهم فخنقهم، إلّا أولئك الذين ينعقون بحياة الخليفة وحاشية الخليفة، بين «النوائب» و «الأوزار» وخدم الخليفة و«حرملك» الخليفة، والإسهاب في نسج الغزل بفساتين نساء القصر وثوب الخليفة.
وفي تلك الولاية، كان يعيش الكاتب صاحب القلم السحري، الذي لا يكتب إلّا بالحق، وكانت الناس تُسميه «سراج الكلمة»، وكان سراج يُدرك أنّ وقع كلماته أشدّ من السيف، وأنّ القلم يستطيع أن يشعل الشارع ويحي الأمل في قلوب المستضعفين والمغيّبين، فلم يكن سراج كاتبا عاديا؛ فقد كان فارة فهم حاذق، وعرف أنّ قلمه السحري لا يكتب إلّا بلغة «الحرّاثين» وحصرا بحبر الفلاحين وهموم «المعثّرين» المُبعدين، فلان له القلم الحُرّ، فوصفت كلماته بالسحرية، الأمر الذي عجز عن فهمه أوزار الدولة و «العسس».
كانت موهبة سراج تتجلّى في قدرته على إحياء الأمل في النفوس، إذ كان يستطيع بقلمه السحري أن يبدل الخوف بالشجاعة واليأس بالأمل، فضلا عن تأثيره على الحرامية، فحين يكتب تتناثر حروفه في البرّيّة وتلامس الخونة واللصوص والسرسرية، فيتبعونها مسحورين حتى تُلقي بهم في السّدّ العظيم من فوق الهاوية.
ومع تزايد الظلم وانتشار الفساد في الولاية، بدأ الناس ينظرون إلى سراج على أنّه أملهم الوحيد للتعبير عمّا يجول في خواطرهم من مطالب لرفع سيف الظلم والفساد والشُرط والعسس لتحقيق الآمال الشعبية.
وفي تلك الأيام الحالكة من حجم التغوّل والاستبداد من رجال الدولة، وصلت إلى الخليفة رسالة بتسلّط الساسة وتجّار الخلافة، فغضب كثيرا وأمر حاجبه أن يُرسل لسراج ويطلب منه النجدة، فقد ذاع حينها صيت سحر حبر قلمه وقدرته على جمع السُرّاق ورميهم في السّدّ العظيم.
وبعث الحاجب رسالة يصف الحالة المزرية التي وصلت إليها الأمور في الدولة الفئوية، وكيف أن الفوضى والظلم قد غمر كل زاوية فيها.
قال الحاجب في رسالته:
«يا سراج الكلمة، يا من تملك القلم الذي يسطع بنور الحق، نناشدك أن تأتي إلينا، شعبنا يئنُّ تحت وطأة الظلم، والأمل فيك وحدك. نرجوك يا سراج، فالكلمات التي تسطرها قادرة على أن تطهّر الأرض من الفساد وتعيد إليها الأمان».
لم يتردّد سراج لحظة، فقد كان يدرك أن قلمه ليس له قيمة إن لم يكن في خدمة الحق والعدل. جمع سراج أوراقه ودواة الحبر وهِمّة لا تنتهي، ومعه قلمه السحري، وسار إلى مقرّ الخلافة في عربستان، وهو يعلم أن الطريق لن يكون سهلا، ولكن الإيمان الذي يحمله في قلبه كان أقوى من كل العوائق التي قد تواجهه.
عندما دخل سراج من بوابة مدينة الخلافة الفئوية، وجدها غارقة في ظلمة الظلم، فعلى قارعة الطريق يجلس الفقراء، بين عجزة وأطفال ونساء معدومين يستجدون «كسرة» خبز حاف، وبجانبهم زُمرة التجار ومُتنفّذي الدولة برداء بهي وعظمة المُتجبّر القوي، والشُرط وأفراد العسس يتملّقون لهم ويركلون الضعفاء إذا مرّوا بهم، وآخرون يسوقون رجالا بهالة الحُكماء والعلماء بين زقاق الحي، فساءه الحال كثيرا، وسأل سراج الشرطي عن شأنهم، فردّ عليه الأخير:
لقد شكّوا بتناسق ألوان حُلّة الوزير
وتحدّثوا عن استدارة عمامة الأمير
فعرف سراج أنّ الغُبن والجور استشرى في كُلّ غور، وسلّمت الناس من بزوغ النور ولم يبقى لهم غير دعاء أصحاب القبور.
بدأ سراج في كتابة كلماته السحرية حتى يأخذهم إلى السّدّ العظيم، كما هي عادته في كتابة الحقّ بالأحرف السماوية، وكان الحبر يخرج من قلمه كأنّه قطرات الندى أو نجوم تتلألأ في حُلكة السماء، تضيء الطريق لمن فقدوا الضمير والبصيرة حتى يركضوا خلفها، وما هي إلّا لحظات حتى بدأت أسراب اللصوص والحرامية والسرسرية يخرجون من بيوت فارهة وقصور؛ من أروقة المدينة الفئوية؛ يُهرولون وكروشهم من السمنة تتعارك أطرافها مع بعضها يمنة ويسرة خلف كلمات سراج السحرية، التي تطايرت في الأرجاء هنا وهناك لامعة، وتجتمع مرّة أخرى مكونة أسرابا كأنّها أسراب نورس وسنونو، وإذا بهم كُلّهم ثُلل المُتنفّذين في الخلافة؛ الوزير الأعظم وأمير الجيش وقائد العسس والشُرط وقُضاة الولايات والحاجب ورئيس الديوان وخادم الدولة وشيخ الإسلام، والأيدي الخفية، وكثرة آخرون في الدولة العلية. واستمر سراج في الكتابة:
إليّ يا عُلّيّة القوم
خذوا صُكوك غفران دون لوم
فمهما طال الإفتراء والظلم
سيغسل السّدّ خطاياكم
وآن للشعب أن يفيق من النوم
لكن اللصوص هذه المرّة لم يكونوا سُذّجا، فقد عرفوا أن كلماته كانت تُهدد وجودهم، فقرّروا خداع سراج والتخلّص منه. وفي تلك الليلة، تسلّلوا إلى مقرّ الضيافة حيث أمر الخليفة باستضافته، وأستبدلوا قلمه بآخر سحري، كذلك حبره؛ ساعدهم بالحصول عليه ساحر يعمل معهم، وهو الذي يُزيّن للخليفة شرورهم وفجورهم وجورهم.
ساقتهم كلمات سراج بحبر الساحر الخائن السحرية إلى السّدّ العظيم، وما أن وصلوا إلى الهاوية، حتى انقضّت جموع الحرامية واللصوص على سراج، وانهالت الكلمات عليه بسيل من الاتهامات، فعرف سراج أنّه ضحية أوزار الدولة العلية.
واعتقلوه واقتادوه بقيادة حاجب الخلافة الفئوية إلى الخليفة، الذي خدع الخليفة ونظام الدولة العلية، وزجّوا به في زنزانة مظلمة وانقلب بذلك على سراج وعلى جميع أعراف القبيلة والتعاليم الدينية.
وقف سراج أمام الحاجب، وهو يعلم أن الظلم قد استحوذ على المكان، ولكن شجاعته لم تخنه، فقال للحاجب:
«قد تستطيع أن تحبس جسدي، ولكنك لن تستطيع أن تسجن روحي ولا ضميري، حتى كلماتي وإن مُنعت، فهي كالمطر، كشعاع الشمس، كبذور الحراثين وحصاد الفلاحين. إن كلماتي هي حق يتردد على لسان المهمّشين، والعدل سينتصر حتى وأنا هنا خلف القضبان مع المُصلحين؛ جُمعنا بفضل سياستكم مع المجرمين».
في الزنزانة، كان سراج يكتب على الجدران بحبر ألمه وخيبة أمله، لأن القلم لم يكن وحده سلاحه، بل كان الإيمان بالحق هو سلاحه الأقوى، حتى انتشرت كلماته بين الناس أغنية حُرّيّة، فقد أدركوا أن الظلم لا يمكن أن يدوم، وأن الحق لا بدّ أن يقوم، وأن السجن امتحان رغم الغُبن يهون.
وهكذا، أصبحت رسائل سراج وسجنه دليل على بؤس الرعية على أيدي أصحاب الفزعات والإنتخابات البرلمانية، يشدون عضد الخلافة الفئوية بقبضة من حديد على كل من ينتقد كُلّ حرامي ولص عربيد، يُسمى تارة صدر الدولة العلية أو أمير الجيش وأخرى أمين الخزائن أو المؤدب حينا أخرى، وقائمة تُجار الأوطان من السرسرية تطول، وتسوّق على أنها قوام الدولة بالعلم والإقتصاد والسياسة والجيش والدين والكذب، وتلميع أكواب القهوة في الأمسيات الشعرية والإجتماعات الدورية ونسق النصوص الأدبية الركيكة والتفشخر بالمنظومة الديمقارطية البالستيكية.
الحُرّيّة لا تُمنع ولا تُمنح، فقد خلقها معنا ربّ البرية، وهي الحق المشروع، والعدل لا يأتي هديّة، إنّما نظام حُكم قائم على الأحقية، وجيل تربّى على الإنصاف والإحقاق وقول الصدق مع الأبجدية، فالصمت أول أداة القمع بسهام شعبية، وتجهيل و «تسحيج» برسم الطاعة والمواطنة والهوية.
قبل أن أنسى... في نهاية الحكاية اليومية؛ سأل السّجّان سراج الحق: «يُنادوك في حورانلاند (سراج الحق)، ولكن ما هو اسمك الحقيقي؟«.
فردّ عليه الكاتب، الحُرّ رغم سجنه من نافذة الزنزانة الصغيرة، يتخلّلها قطع حديدية تزيد إلى ضيق النافذة عزلة: «أني أحمد حسن الزعبي».