الكاتب:
* مروان أميل طوباسي .
مع استمرار تصعيد الاحتلال الإسرائيلي جرائمه في الضفة الغربية وبعد المجازر والمحارق التي ارتُكبت في غزة ، أصبح واضحاً أن الأحتلال يسعى إلى فرض وقائع جديدة على الأرض تُفشل أي جهود لقيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة ومتواصلة جغرافيا . هذا التصعيد يضعنا أمام تحدٍ تاريخي لكنه يشكّل فرصة لإعادة صياغة رؤيتنا الوطنية الشاملة، خاصة في ظل المتغيرات الدولية والإقليمية، وعلى رأسها السياسات الأمريكية في ظل ولاية ترامب الثانية .
-- جرائم الأحتلال واستراتيجية الهيمنة.
الاحتلال الإسرائيلي، مدعوماً بالدعم الأمريكي المطلق ، يعزز مشاريعه التوسعية عبر تصعيد هجماته على شعبنا ومضاعفة الحواجز والاقتحامات. هذه السياسات ليست عشوائية ، بل تأتي ضمن استراتيجية شاملة تهدف إلى تكريس نظام الكانتونات وتقويض أي فرصة لسيادة فلسطينية. في هذا السياق، يتجلى الانحياز الأمريكي بشكل فاضح، حيث دعمت تصريحات المندوبة الجديدة للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة مزاعم إسرائيلية تستند إلى حقوق دينية يهودية توراتية مزعومة في كامل أراضي الضفة الغربية اضافة الى تصريحات سفير ترامب لدى تل أبيب بنفي وجود شعب فلسطيني ،
هذه المواقف وغيرها تعكس التماهي مع اليمين الصهيوني المتطرف .
وتتزامن هذه المواقف مع خطوات ميدانية مثل تشجيع الاستيطان وتمهيد الضم التدريجي وفق ما قالت عنه الملياردية اليهودية مريام اديلسون بانه وعد من ترامب اثر تبرعها لحملته بمبلغ مئة مليون دولار . إدارة ترامب تدعم هذه السياسات بشكل مباشر عبر قراراتها السابقة والحالية ، مثل إعلان القدس عاصمة لإسرائيل واستمرار الضغط لفرض حلول أحادية تتماشى مع رؤيتها لصفقة القرن وقيام ترامب برفع العقوبات عن المستوطنين مما يجعل ارهابهم وفق الصحافة الاسرائيلية ، مما ايضا ومن جهة اخرى يشكل تهديدا للأمن القومي للأردن الشقيق .
-- الفرصة الوطنية في مواجهة السياسات الأمريكية والإسرائيلية.
أمام هذا الواقع، لا يمكن للفلسطينيين الاستمرار في نهج الانتظار أو الاعتماد على تحركات دبلوماسية متفرقة او ردود افعال . بل يجب أن نرى في اللحظة الراهنة فرصة لإعادة صياغة استراتيجيتنا الوطنية الشاملة والمتكاملة . الوحدة الوطنية الفلسطينية الواسعة القائمة على استقلالية القرار هي المفتاح لمواجهة هذه التحديات، إذ لا يمكن التصدي للمشاريع الإسرائيلية والأمريكية دون موقف وطني موحّد يعكس إرادة شعبنا.
-- لقاء وطني واسع .
وفي هذا الإطار ، أرى ضرورة لعقد لقاء وطني واسع وشامل يدعو إليه الرئيس محمود عباس بصفته رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ودولة فلسطين. هذا اللقاء يجب أن يشمل كافة الفصائل الوطنية والمستقلين والقطاعات الشعبية والاهلية ، خاصة فئة الشباب . الهدف ليس فقط توحيد الصفوف، بل رسم سياسات وطنية فاعلة تواكب المتغيرات وتواجه الضغوط الأمريكية والإسرائيلية يتحمل الكل الوطني فيها مسوؤلياته .
-- سياسات ترامب وإعادة تشكيل الشرق الأوسط .
ترامب، الذي يسعى إلى تعزيز الهيمنة وتفوق الدور الإسرائيلي ، يستغل التحولات الإقليمية لتحقيق أهدافه واعتبار قضيتنا السياسية قضية إنسانية تحتاج الى مساعدات وهبات ومشاريع سياحية في غزة . سياساته في ولايته الثانية، ستكون امتداداً لنهجه في الدورة الأولى ربما مع تغيرات طفيفة براغماتية غير عقائدية ، تُظهر تصعيداً واضحاً في دعم إسرائيل على حساب شعبنا وقضيته الوطنية السياسية من خلال : أولاً ،
تعزيز التطبيع الإقليمي الابراهيمي ، حيث تسعى واشنطن لتوسيع دائرة التطبيع مع إسرائيل عبر ضغوط اقتصادية وسياسية على دول مثل السعودية ولبنان وسوريا ، مما يضعف الموقف الفلسطيني .
ثانيا : تقويض فكرة الدولة الفلسطينية ذات السيادة والمستقلة والمتواصلة عبر دعم الأستيطاني وتوسيعه والضم التدريجي ، من خلال دتحويل ما يتبق. من اراضي الضفة الغربية إلى كانتونات ومعازل متناثرة ، وفصل غزة ككيان مستقل مما يجعل حلم الدولة الفلسطينية المتواصلة غير قابل للتحقيق.
* ترسيخ الانقسام الداخلي ، خطر على المشروع الوطني .
تأتي محاولات "حماس" للتواصل مع الإدارة الأمريكية ، بمعزل عن منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الوحيد وصاحبة الولاية القانونية والسياسية ، والتي تحتاج الى سرعة استنهاض أوضاعها وهياكلها المختلفة وتعزيز أوسع مشاركة ديمقراطية فيها بما يتوافق مع مكانتها بدء من اعادة تشكيل / انتخاب المجلس الوطني الفلسطيني تتبعه عضوية المجلس المركزي وانتخاب اللجنة التنفيذية وفق اللوائح الناظمة ، في وقت حساس يتطلب تفعيل كل الاطر وتوحيد الجهود الوطنية وتنفيذ أتفاق بكين لمواجهة سياسات الأحتلال ومخططات واشنطن ، على ان يتبع ذلك إتاحة اجراء انتخابات عامة تعيد للشعب سلطاته في أختيار قيادته واقرار التشريعات اللازمة وممارسة دوره الرقابي وفق الانظمة ووثيقة اعلان الإستقلال . المحاولات لاسترضاء الأمريكان التي أشرت لها لا تخدم سوى الأجندات التي تسعى لترسيخ الانقسام الفلسطيني التي تستفيد منها مختلف الاطراف السياسية الصهيونية ، وتفتح المجال للولايات المتحدة للعمل على جبهتين ، الأولى مع منظمة التحرير الفلسطينية، باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني بالرغم من انها ما زالت تعتبر وفق رؤيتهم "منظمة إرهابية" وفق القانون الامريكي ، والثانية مع حركة حماس كطرف منفصل أيضا باعتبارها "كجهة إرهابية ". وهذا قد يندرج في اطار سياسات الولايات المتحدة منذ بداية ما سمي بالربيع العربي التي تعاونت فيها مع حركات الإسلام السياسي بالمنطقة ، وهو امر درجت عليه سابقا في أفغانستان واخيرا في السودان وسوريا .
هذا النهج إذا استمر ، يعزز استراتيجيات الاحتلال والإدارة الأمريكية لتجزئة القضية الفلسطينية ، ويضعف وحدة المشروع الوطني القائم على وحدة الأرض والشعب والقضية. كما يشجع الأطراف الخارجية بما فيها الاتحاد الأوروبي الذي يغيب صوته عن ما يجري اليوم ، على التعامل مع الفلسطينيين كأطراف متفرقة او طرفين على الاقل وايجاد حلول غير وطنية لما يسمى باليوم الثاني لغزة ، وليس كشعب واحد يسعى إلى تحقيق الحرية والاستقلال الوطني على قاعدة إنهاء الأحتلال اولاً وممارسة حقنا بتقرير المصير .
-- إعادة التموضع فلسطينياً .
في مواجهة هذا التصعيد، لا بد من خطوات عملية تعكس إرادة الشعب الفلسطيني وضرورات اللحظة الراهنة ومن اهمها :
أولاً ، استنهاض دور حركة "فتح" باعتبارها العمود الفقري للحركة الوطنية، من خلال تعزيز الديمقراطية الداخلية وتجديد الأطر التنظيمية ووضوح هويتها وبرنامجها كحركة تحرر وطني تكافح من اجل دحر الأحتلال ، بما يساهم بالتوازي مع الاجراءات المطلوبة لتصويب أوضاع منظمة التحرير والارتقاء بدورها .
ثانيا : تعزيز المقاومة الشعبية ، ولنا بذلك مثال الأنتفاضة الكبرى ، كما والدبلوماسية المقاومة وأشكال المقاطعة الدولية عبر استثمار القانون الدولي لاستمرار مقاضاة اسرائيل ولكشف الجرائم الإسرائيلية والانحياز الأمريكي بما يساهم في عزل سياساتها ، مع تعزيز بناء علاقات استراتيجية مع القوى الرسمية والشعبية الدولية التقدمية التي تدعم حقوق شعبنا غير القابلة للتصرف .
ثالثاً ، رفض الانصياع للضغوط الأمريكية حيث إن استرضاء واشنطن لن يؤدي إلا إلى مزيد من الضغوطات علينا ، وإلى ترسيخ الانقسام وفقدان استقلالية ووحدة القرار الوطني بشان مقاومة الأحتلال .
* لحظة اختبار للإرادة الوطنية .
اللحظة الراهنة هي لحظة اختبار للإرادة الوطنية الفلسطينية المستقلة . علينا أن نختار ، إما أن نتوحد كقوة واحدة تواجه الاحتلال وفق رؤية للكفاح الوطني واضحة عقلانية تحظى باجماع الكل الفلسطيني ، أو نترك الساحة مفتوحة لمزيد من العدوان والاستيطان والضم .
فالشعب الفلسطيني في غزة ، الذي صمد وينهض اليوم كطائر الفينيق من المحارق والدمار لا يحتاج منا الى المناظرات حول النصر أو الهزيمة . فكل شعبنا يدرك تماما أن الانقسام لم يخدم إلا الأحتلال ، وأن الوحدة في اطار المنظمة هي المدخل الوحيد لتعزيز صمودنا وتحقيق أهدافنا الوطنية ، وان الأستعجال في استرضاء الأمريكان للحوار معهم لا يخدم سوى مزيدا من تجسيد الأنقسام ، كما ان الوقوع في وهم الخداع والنفاق السياسي الأمريكي لن يخدم استقلالية القرار او التقدم في رسم سياسات التحرر والأستقلال الوطني . فالتاريخ لن يرحم المترددين ، والمستقبل لن ينتظر أحداً والتاريخ لا يقبل الفراغ .