الكاتب: اللواء المتقاعد: أحمد عيسى
لا زالت حملة جيش الإحتلال الإسرائيلي العسكرية في الضفة الغربية التي بدأت من مخيم جنين مستمرة لليوم السابع على التوالي، إذ كانت قد بدأت يوم الثلاثاء الماضي الموافق 21/1/2025، وأطلق عليها الجيش اسم (السور الحديدي).
وكانت الضفة الغربية مسرحا لحملة عسكرية إسرائيلية العام 2002، أطلق عليها الجيش في حينه إسم (السور الواقي)، حيث أعتبرت العملية العسكرية الأكبر للجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية منذ أحتلالها العام 1967.
يسعى هذا المقال الى فحص التوافق والإختلاف بين العمليتين من حيث التسمية، والأهداف، والسياقات الإستراتيجية لكل منهما، ثم المرور على ما حققته إسرائيل من إنجازات حسب تعبيرها في العملية الأولى، في محاولة للوقوف على ما تسعى إسرائيل لتحقيقه في الإعتداء الجاري، وهل سيكون النجاح من نصيبها؟
فمن حيث التوافق بين العمليتين، فيتجلى اولاً في الجغرافيا، إذ أن الضفة الغربية هي مسرحهما وأن جنين، لا سيما مخيمها هو نقطة البداية للعمليتين، علاوة على تجليه في إطلاق مسمى (السور) على كل منهما.
أما من حيث الإختلاف فتتجلى أول جوانبه في طبيعة هذا السور، إذ كان في العملية الأولى وقائية أي ذات طبيعة دفاعية، أما في الثانية فهي حديدية، أي ذات طبيعة هجومية أكثر منها دفاعية.
وتكمن ثاني جوانب الإختلاف بين العمليتين في أهداف كل منهما، إذ كانت إسرائيل قد أعلنت في حينه أن هدف عملية السور الواقي هو القضاء على البنية التحتية للمقاومة في الضفة الغربية بما في ذلك القضاء على بنية السلطة الوطنية الفلسطينية التي إعتبرتها إسرائيل جزء أصيل من بنية المقاومة الفلسطينية، لا سيما وأن حركة فتح، التنظيم الذي تقوم عليه منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية، قد انخرط عميقا في المقاومة من خلال جناحها العسكري الذي حمل اسم كتائب شهداء الأقصى.
حيث أعاد الجيش الإسرائيلي احتلال الضفة الغربية كاملة ودمر كل مؤسسات السلطة الفلسطينية الأمنية (السيادية)، وحاصر مقر الرئاسة الفلسطينية (المقاطعة) ودمر معظم مبانيها، والأهم في هذا الشأن كان تجرأ إسرائيل على إغتيال للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات بعد مرور عامين على بدأ عملية السور الواقي.
وفيما يبدو أن هناك توافق بين أهداف الحملتين فيما يتعلق بالقضاء على البنية التحتية للمقاومة إلا أن الإختلاف هذه المرة وفقا للخطاب الإسرائيلي الرسمي يكمن في مكونات هذه البنية، إذ أن السلطة الفلسطينية خاصة أجهزتها الأمنية غير مشمولة في البنية التحتية للمقاومة، وتكمن ثاني جوانب الإختلاف في الأهداف المعلنة لحملة السور الحديدي، إذ أعلن وزير المالية والوزير الثاني في وزارة الدفاع (سموتريتش) أن هدف العملية هو فرض فهوم الأمن الإسرائيلي في الضفة الغربية، ومن جهته أضاف نتنياهو أن هدف العملية هو ملاحقة أيادي إيران في الضفة الغربية.
تجدر الإشارة هنا أن حركة فتح والسلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية غير مشمولتين في بنية المقاومة الفلسطينية وفقا للخطاب الإسرائيلي الخاص بالحملة العسكرية، إلا أنه من اللافت أن إسرائيل لا تخفي رفضها وعدم ثقتها في كل منهما، الأمر الذي يبدو واضحا في عبارة نتنياهو الشهيرة ( لاحماس ستان ولا فتح ستان)، ويبدو أكثر وضوحا في تصريح وزير المستوطنين سموتريتش أن هدف عملية السور الحديدي هو فرض مفهوم الأمن الإسرائيلي قي الضفة الغربية، الأمر الذي يحرم السلطة الفلسطينية من تجسيد المفهوم الفلسطيني للأمن في الضفة الغربية ويمنع تحولها لدولة مستقلة، ذات سيادة، ويجعل من الأمن الفلسطيني وتطبيقاته وفقاً لرؤية سموتريتش ملحقا أو تابعا للمفهوم الأمني الإسرائيلي.
وحول جوانب الإختلاف في السياقات الإستراتيجية الناظمة للحملتين فهي كثيرة وتتعلق بالبيئة الإستراتيجية (المحلية والإقليمية والدولية) لكل من الفلسطينيين والإسرائيليين، إلا أن أبرزها يكمن في اعتبار الضفة الغربية جبهة حرب من الجبهات التي تخوض فيها إسرائيل حرب ابادة منذ أكثر من خمسة عشر شهراً، لا سيما على قطاع غزة، حيث أطلقت إسرائيل عليها اسم (السيوف الحديدية)، الأمر الذي يعني أن الحرب على الضفة الغربية والتي تحمل اسم السور الحديدي هي امتداد لحرب الإبادة على غزة، الأمر الذي يعني أن إستئصال المقاومة وتطبيقاتها ومن يقول بها في فلسطين هي هدف أساسي معلن للحرب على الجبهة الفلسطينية سواء جبهة غزة أم جبهة الضفة الغربية.
وتتجلى ثاني جوانب الإختلاف بين العمليتين في الرؤية الإسرائيلية لمعالجة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إذ يبدو واضحا أن الإئتلاف الذي يحكم إسرائيل الآن قد إستبدل إستراتيجية التسوية السياسية للصراع التي لم تخرج عنها إسرائيل خلال عملية السور الواقي، باستراتيجية الإبادة والتطهير والتهجير كما حدث في غزة ويحدث في جنين الآن.
ويكمن ثالث جوانب الإختلاف في الموقف الأمريكي من الصراع ومعالجته، إذ أعلن الرئيس الأمريكي (بوش الإبن) خلال عملية السور الواقي وتحديداٍ بتاريخ 24/يونيو/2002، عن حق الفلسطينيين لدولة فلسطينية مستقلة خاصة بهم تعيش بجانب إسرائيل بأمن وسلام، فيما خلال الحملية الحالية على كل من غزة والضفة الغربية تشارك الإدارة الأمريكية إسرائيل في ابادة الشعب الفلسطيني، ويبدو أن مشاركتها في ولاية الرئيس ترامب ستكون أكثر قسوة منها في عهد الرئيس بايدن، الأمر الذي بدى واضحا في اختياره لفريق يعمل معه أكثر يمينية من اليمين المتطرف الذي يحكم إسرائيل بزعامة نتنياهو، وكانت تصريحاته التي نقلتها وكالة رويترز يوم الأحد الموافق 25/1/2025 عن طلبه من بعض الدول في المنطقة إستقبال فلسطينيين من غزة التي لم تعد مكان يصلح للعيش.
وحول ما حققته إسرائيل خلال حملة السور الواقي فيمكن تلخيصه بالسور الواقي الذي ضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية، ودمرت مساحة واسعة من مخيم جنين واغتالت الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، الأمر الذي يجعل من المشروع التساؤل هل ستضم خلال عملية السور الحديدي التي هي امتداد لحرب الإبادة على غزة مساحات شاسعة من الضفة الغربية لسيادتها؟ لا سيما وأن سموتريتش كان قد اعلن ان عام 2025 هو عام ضم الضفة الغربية؟ وهل ستكتفي بتدمير مخيم جنين برمته أم ستنتقل لتدمير مخيمات وقرى أخرى في الضفة الغربية؟ وهل ستعود لمقاربة الحل السياسي للصراع أم ستبقي على مقاربة الحسم من خلال الإبادة؟
وهل ستسعي الى استيلاد قيادة فلسطينية تتبنى مفهوم الأمن الإسرائيلي في الضفة الغربية وفقاً لإعلان سموتريتش؟ لا سيما وأن القيادة الفلسطينية الحالية بزعامة الرئيس محمود عباس اخر المؤسسين للمشروع الوطني الفلسطيني والمنهك واليائس من أمريكا وحلفائها بانجاح التسوية السياسية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي تصنفه إسرائيل كإرهابي ذكي وعدو شرس للصهيونية ويرى في إسرائيل مشروع استعماري إستيطاني شرس.
تجدر الإشارة هنا أن جيل فلسطيني جديد قد نشأ في الفترة الزمنية الممتدة من السور الواقي الى السور الحديدي وأن تصميم هذا الجيل على مواجهة الإبادة واضحة وملموسة، والأهم أن اصراره على الصمود على أرضه أكثر وضوحا، الأمر الذي يشي بوضوح أيما وضوح أن السور الحديدي مصيره الفشل كما كان مصير السور الواقي، وأن المقاربة العسكرية الإبادية التي ترى إسرائيل بأنها المقاربة الأنجع لحسم الصراع مع الفلسطينيين على هذه الأرض لا تجلب لإسرائيل ومواطنيها إلا الفشل، الأمر الذي يفرض على الإسرائيليين لا سيما اليهود منهم توسيع دائرة النقاش الجاد فيما بينهم عن جدوى مشروعهم الإستعماري من أصله.