الأربعاء: 29/01/2025 بتوقيت القدس الشريف

رسالة إلى غزة: مجدٌ فوق الركام وإرادةٌ لا تُكسر

نشر بتاريخ: 27/01/2025 ( آخر تحديث: 27/01/2025 الساعة: 11:31 )

الكاتب: بسام زكارنه


يا أهل غزة، يا من جعلتم من الصمود أسطورةً تُروى، ومن التحدي درساً يُتعلَّم ، يا من صمدتم في وجه الطائرات والقنابل، فكنتم الجبالَ التي تأبى الانحناء، والشموعَ التي تحترق لتنير درب الحرية ، يا من كنتم بحر للثوار و المقاومين ، اليوم تعودون إلى الشمال و إلى ما تبقى من شوارعكم، إلى أطلال بيوتكم، إلى أرضٍ امتزج ترابها بدماء أحبائكم، لكنكم تعودون مرفوعي الرأس، بأرواحٍ منتصرةٍ وإرادةٍ لا تُكسر .

تعودون مشياً على الأقدام، بين الأنقاض والذكريات، تحملون أثقالَ الفقد والمآسي. البعض منكم يعود بلا آباء، بلا أبناء، بلا عائلاتٍ أو جيرانٍ كانوا يوماً جزءاً من حياتكم. البعض يعود بلا بيتٍ، بلا مأوى، بلا ممتلكات. ومنكم من فقد أطرافه، ومنكم من فقد بصره، لكنكم تعودون كالبنيان المرصوص، تُسنِدون من لا يقوى، وتدلّون من فقد نور عينيه.

أنتم لستم مجرد ناجين من حربٍ همجية، بل أبطالٌ انتصروا على القهر. لقد أثبتم للعالم أنَّ قوة الإرادة تُسقط أعتى الجيوش، وأنَّ الطائرات والمدافع، وإنْ أحرقت الأرض، لا تقدر على حرق العزيمة. بصمودكم وثباتكم، فرضتم على المحتل ما لم يكن يتوقعه؛ بصمودكم تحرَّر الآلاف من الأسرى، الذين كُتب لهم أن يقضوا حياتهم خلف القضبان، لكنكم كسرتم القيود، وأعدتم الحياة لمن ظنَّ أنها انتهت.

وإننا، ونحن نوجّه رسالتنا إليكم، لا يمكن أن ننسى أبطال المقاومة الذين كانوا في مقدمة الصفوف، يقاتلون المحتل بقلوبٍ لا تعرف الخوف، وبنفوسٍ لا تعرف إلا العزة. هؤلاء الأبطال، الذين ضحوا بأرواحهم ودمائهم من أجل أن تبقى غزة رمزاً للكرامة، هم أوسمة الشرف على صدور الأمة. المقاومة التي صمدت رغم كل الحصار والقصف، والتي أثبتت أنَّ الإرادة الحرة لا تُقهر، كانت درعكم وسيفكم، وكانت ولا تزال الصوت الذي يدافع عن قضيتنا في وجه كل طغيان.

يا من سطّرتم بدمائكم أبهى معاني الكرامة، يا من وقفتم بشموخٍ على رماد أحلامكم، إنكم قدّمتم درساً للبشرية جمعاء. علمتم العالم أنَّ الكرامة لا تُشترى، وأنَّ الحرية لا تُوهب، بل تُنتزع بالتضحيات الجليلة. وكما قال الشاعر:
“وقفتَ وما في الموتِ شكٌّ لواقفٍ
كأنك في جفنِ الردى وهو نائمُ”

تعودون اليوم وقد فقدتم الكثير، لكنكم تحملون أثمن ما يمكن أن يمتلكه شعب: الوحدةَ، الإيمانَ، والحب. تكاتفكم هو زادكم، وعطاؤكم هو قوتكم. ستُطعمون من لا يجد ما يأكله، وستحملون من أعيَتْه الجراح، وستكونون عصا لمن فقد بصره، وسنداً لمن لم يعد يستطيع السير وحده.

تعودون إلى الشمال المدمر، بعدما مررتم بكل مناحي الأرض من الوسط والجنوب والشرق والغرب، ومن نزوح إلى نزوح ، لتجدوا أن الشمال لا يختلف في دمارِه ومآسيه عن باقي الجهات. الشمال الذي كان معقلاً للثوار وساحة حرب مشتعلة لم تتوقف، أصبح اليوم شاهداً على أطلالٍ وألم، حيث عاد الناجون من حرب الإبادة إلى بيوتهم فلم يجدوا إلا الركام والخراب. لكنكم، يا أهل غزة، ستجدون آثار العزة و الفخر آثار الثوار التي تروي قصص الصمود والبطولة، ستجدون عزيمتهم التي بقيت راسخة رغم كل شيء، كما ستجدون شواهد على أن الأرض، مهما احترقت وجُرحت، تبقى حاضنة لذكرى الأبطال. ستجدون أيضًا بقايا دبابات الاحتلال المدمرة، تلك الآلات الحربية التي حاولت أن تفرض قوتها على شعبكم، لكنها تُركت محطمة مدمرة في الأرض بعد أن عاثت في الارض و البشر خرابا و قتلا ، تركت آثاراً من دماء الأطفال و النساء و الشيوخ و دمارٍ وتدميرٍ للمشافي و البيوت و المدارس ، و تناثر شظاياها شاهدةً على فشل الاحتلال أمام عزيمة شعب لا يُقهر. اجتاحتكم العاصفة التي لا تميز بين مكان وآخر، كما اجتاحتكم دباباتهم و طائراتهم ، تدميرًا وتهجيرًا، بلا رحمة أو هوادة. تلك العاصفة، التي تماثل في همجيتها هجمات النازيين التتار الوحشية، دباباتهم حملت معها الدماء والدمار في كل زاوية من غزة. وكما قال الشاعر:

“إذا كنت في عزٍ فكن كالجبال
ولا تقبل على نفسك الذلَّ في الحال”

أنتم، يا من سطرتم معاني الصمود والتحدي، عُدتم لتكتبوا فصلاً جديدًا من المجد والعزة و الصمود ، لتبقى إرادتكم أقوى من أي دمار، وأعلى من أي محاولة للاحتلال للرحيل و التهجير .

غزة، يا رمز الكبرياء، يا عنوان الشموخ، لست مجرد مدينة، بل قلقة الثوار أيقونة الصمود ، بل حجراتك شاهدا و رسالة لكل أحرار العالم أنكم حراس الكرامة و قبلة المظلومين ، أنتم درع الأمة، انتم تاج الراس ، أنتم من جعل من الألم أملًا، ومن الجراح نصرًا، ومن الرماد شعلةً لا تنطفئ.

امضوا، فإنكم التاريخ الذي يُكتب الآن ، أنتم الصورة التي ستعلّقها الأجيال القادمة في قلوبها ، أنتم من حولتم الركام إلى مجد، والدمار إلى طريق نحو الحرية، أنتم طليعة هذه الأمة، ونحن ننحني احترامًا لعظمتكم و نقبل اقدامكم .

يا أهل غزة، امضوا، فإنكم في كل خطوة ترسمون درب النصر، وتكتبون قصة الخلود ، و هذا الوقت سيمضي و نحتفل بالنصر و الاستقلال و يرفع الطفل الوحيد الذي بقي من عائلته علم فلسطين فوق اسوار القدس و مآذنها و كنائسها.