الكاتب: د. جمال زحالقة
في مؤتمر صحافي في البيت الأبيض وقف الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، على يمين رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وأطلق تصريحات فاجأت العالم، واعتبرتها صحيفة «نيويورك تايمز»، «الفكرة الأكثر وقاحة لزعيم أمريكي منذ سنوات طويلة». هو رشّ المزيد من الملح على الجرح الفلسطيني النازف عبر الدعوة لتهجير كل أهالي غزة بشكل دائم، وتوزيعهم في مواقع عديدة تقام فيها منازل لهم بتمويل من دول المنطقة «التي تملك الكثير من المال»، على حد قوله. ولم يجد ترامب حرجا في ترديد أن «غزة دمار» ولا تصلح لحياة آدمية، وعلى يساره وقف المجرم المباشر، الذي قتل ودمّر وحرق وفجّر وجعل أرض غزة خرابا.
وتبرّع سيد البيت الأبيض، الذي يعتبر نفسه سيد العالم، بأن تأخذ الولايات المتحدة المسؤولية عن غزة لتنظيفها من المتفجّرات ومن الركام، لتقيم على شواطئها مناطق سياحية وفنادق فاخرة، بعد إخلاء أهلها منها.
ولم يكلّف ترامب خاطره لشرح بأي حق، ووفق أي قانون، أو شرع يستولي على بلاد لها أهلها؟ بأي حق يتملكها ويطرد أهلها؟ هو يعلم جيّدا أن ما قاله مناف للقوانين والأعراف الدولية، ولكن يبدو أن عقلية الاستعمار الاستيطاني متأصّلة في ذهنه، بحيث يعتبر اقتلاع أهل البلاد من «غير البيض» واستعمار بلادهم وإقامة المستوطنات والمشاريع الاقتصادية فوق ارضهم هو أمر طبيعي وعادي. ومعيار شرعية الاستعمار الاستيطاني متجذّر في التاريخ الأمريكي، ففي سنة 1830 أقر الكونغرس قانون تهجير الهنود الحمر، ووفق مبادئ هذا القانون جرى اقتلاع أهل أمريكا الأصليين ونقلهم إلى مناطق أخرى، وأقيمت شركات مساهمة كبرى لإقامة المستعمرات والمرافق الاقتصادية فوق أرضهم.
انتصب ترامب إلى يمين نتنياهو في الوقفة، وفي الموقف، فهو الذي دعا جهارة إلى الترانسفير وتهجير الفلسطينيين إلى مصر والأردن ودول أخرى. أمّا نتنياهو فلم يجرؤ حتى على تكرار ما قاله ترامب، واكتفى بكيل المديح له ولتصريحاته، كما فعل سلفه دافيد بن غوريون، حين عقّب، في جلسة للقيادة الصهيونية، على بند «النظام العالمي بعد الحرب» في البرنامج السياسي حزب العمّال البريطاني، عشية انتخابات 1945 (التي خسرها تشرشل)، الذي شمل دعما لتشجيع «تهجير الفلسطينيين إلى الدول العربية المجاورة لإخلاء مكان للمهاجرين اليهود». وقال بن غوريون حينها «هذا اقتراح مثير وجدير بالاهتمام»، ومن المعروف أن بن غوريون كان قليل الكلام وكثير الفعل بالنسبة للتهجير، إضافة لذلك يبدو أن نتنياهو فضّل اتخاذ جانب الحذر، خشية إثارة المزيد من التوتر مع مصر والأردن، وتفاديا لمآلات الحديث عن التهجير في المحاكم الدولية. لكن نتنياهو، في الواقع، متحمّس للترانسفير أكثر من ترامب، خاصة أنّه يتوجّس من «اختلال التوازن الديموغرافي» ووصول عدد اليهود الإسرائيليين والفلسطينيين إلى مساواة عددية تصل الى حوالي 7.3 مليون لكل منهما. وتناقلت وسائل الإعلام أن «ابتسامة الرضى» ارتسمت على وجه نتنياهو عند إصغائه إلى كلام ترامب عن التطهير العرقي لغزة، وعن تهجير بلا رجعة.
نتائج فورية
لا يصح القول إن مشروع ترامب تافه وسخيف ولا قيمة عملية له، ولا يجوز الاكتفاء بالتعامل مع حرفيته، وبالتخمين حول فرص تطبيقه في ظل الرفض العربي والفلسطيني. هو مشروع خطير جدا وله مفاعيل وتأثيرات فورية، اليوم قبل غد:
أولا، منح رئيس أقوى دولة في العالم شرعية كاملة للترانسفير، كمبدأ وكمخطط عملي، بعد أن كانت الدعوة العلنية للتهجير فاقدة للشرعية حتى في المنظومة السياسية الإسرائيلية، وجرى في حينه إخراج حزب «كاخ» بزعامة مئير كهانا عن القانون، لأنه دعا إلى الترانسفير. وقد سبقت تصريحات الرئيس الأمريكي موجة من مقترحات «التهجير الطوعي»، بغطاء إنساني وبوقاحة لا يجاريها سوى ترامب «الهجرة أرحم لأهل غزّة من المعاناة تحت الحصار والقصف»، وبقيت هذه الدعوات مهمّشة باعتبارها غير عملية. لكن بعد كلام ترامب تغير الخطاب الإسرائيلي السائد والمعلن بسرعة البرق، فالتهجير صار يسوّق جهارة على أنّه أخلاقي وعملي، وقابل للتوسّع ليشمل الضفة الغربية أيضا.
ثانيا، أعطى ترامب حقنة طاقة قوية لليمين المتطرف في إسرائيل. فقد اتُّهم هذا اليمين، على مدى سنوات طويلة، بأنّ مواقفه تخرّب العلاقة بالولايات المتحدة، وتضر بسمعة إسرائيل في الرأي العام العالمي وفي المحافل الدولية. وبعد أن كشف ترامب موقفه ومشروعه أصابت النشوة السياسية دعاة الترانسفير، ويستطيع بن غفير الادعاء بأنه أقرب من غيره إلى التوجه السياسي الرسمي للولايات المتحدة، كما جاء على لسان رئيسها. وفي السياق الإسرائيلي نجد في المحصّلة أن فكرة التهجير أصبحت مكتملة الشرعية وفي منتهى القوّة وزادت شعبية حامليها في المنافسة الحزبية في الدولة الصهيونية.
ثالثا، أطالت تصريحات ترامب من عمر حكومة نتنياهو وأبعدت عنها خطر السقوط. فبعد زيارة نتنياهو ونتائجها، صار من مصلحة اليمين المتطرف الإبقاء على التركيبة الحكومية الحالية، للاستفادة من «هدايا» سيد البيت الأبيض، التي تنهال بغزارة، والتي وصلت ببعض أبواق اليمين الى القول «لا نصدّق أنفسنا!».
رابعا، ما قاله ترامب عمليا هو أن الفلسطينيين ليس لهم حق على أرضهم ولا حق تقرير المصير. فهم بنظره مجرد أفراد يمكن نقلهم من بلادهم إلى بلاد أخرى، ويمكن تفتيتهم وتوزيعهم في مناطق مختلفة. وإذا أضفنا إلى ذلك تراجع ترامب حتى عمّا جاء في صفقة القرن فإننا عمليا أمام حالة شراكة أمريكية – إسرائيلية في مشروع الإبادة السياسية للشعب الفلسطيني (بوليتيسايد).
رابعا، من الناحية العملية وضع ترامب على الطاولة ورقة جديدة، ليجبر الجميع على التعامل معها، فمن يدعمها يُطلب منه دفع ثمنها، ومن يعارضها ويطلب إلغائها عليه أن يقدم تنازلا قبالها. ومن الممكن جدّا أنها طُرحت لتحقيق غايات محددة. فإذا سلمنا بأن الهدف المركزي للسياسة الأمريكية الحالية في المنطقة هو التوصل إلى «صفقة كبرى» مع المملكة العربية السعودية تشمل تطبيعا مع إسرائيل، فإن وقف الحرب والتراجع عن مشروع الترانسفير سيُعرضان كمكسب من هذا التطبيع، خاصة وأن إسرائيل ستكون «بخيلة جدا» بكل ما يخص «الدولة الفلسطينية». وهذا تكرار لما حدث في سياق اتفاقيات التطبيع الإبراهيمية عام 2020. من جهة أخرى، هناك حاجة بأن يسبق التطبيع موافقة للحكومة الإسرائيلية على المرحلة الثانية وعلى إنهاء الحرب، والتلويح بحلم الترانسفير هو إغراء لليمين المتطرف بابتلاع الهدنة الدائمة، سعيا إلى التفاهم مع الإدارة الأمريكية بشأن مشروع ترامب. إذا صح هذا السيناريو، وجرى تطبيق المرحلة الثانية من صفقة التبادل، يبقى السؤال ماذا يخطط الثنائي ترامب -نتنياهو لغزة في المرحلة المقبلة؟
كيف نواجه؟
المذهل والرهيب أن المشروع الرسمي الوحيد المعروض بالنسبة لليوم التالي في غزة هو مشروع ترامب. أين المشروع الفلسطيني الرسمي والموحّد؟ أين الطرح العربي؟ وكيف الخروج من هذا
«الزمن الرديء»؟
مشروع ترامب لن يسقط من تلقاء نفسه، هناك لزوم للتصدي له وللخروج بمشروع وطني فلسطيني مضاد، يتبنّاه العرب ويمكن إقناع العالم به. وقد أثبت التاريخ أن التصدي المسؤول والحازم يمكن أن يتجاوز حدود التحدي ويحقق مكاسب كبرى. والشعوب الحيّة قادرة على تحويل اللعنة إلى بركة، شرط أن تكون عندها قيادات رشيدة ذات نظرة ثاقبة وقدرة على تشخيص المخاطر وعلى مواجهتها وعلى تجاوز قلة الحيلة وضيق الأفق. الشعب الفلسطيني شعب عظيم وطاقاته كبيرة. ما ينقصه حقّا هو قيادة لا تخشى شعبها، بل تثق به وبقدراته. لقد آن الأوان للتخلص من الإدمان على السير في مسارات الضياع، وإلى تحمّل مسؤولية حماية شعب فلسطين بالإسراع في الوحدة وضمان الدعم العربي والسعي لتفاهم إقليمي عربي – تركي-إيراني لتصحيح الخلل في الموقف وفي الأداء وفي موازين القوى.