الكاتب: عيسى قراقع
أحمل نعشي على كتفي وامشي وامشي، هذه كلمات الشاعر الفلسطيني الكبير المرحوم سميح القاسم، رايته مع العائدين من جنوب غزة الى شمالها بعد اتفاقية وقف اطلاق النار، صوت الناس المتعطشين للعودة يقول: لن يتكرر الهجيج الذي جرى عام النكبة 1948، نحمل جثثنا والامنا وما تبقى من حطام الروح ، وما تبقى من هواء الارض ونمشي ثم نمشي، لا شيء يوقفنا ، لان وقوفنا موتنا، الضحايا تنهض وتتنفس بدمها ولحمها وترفض الدفن والنسيان.
نحن الشعب الفلسطيني نقول للرئيس الامريكي ترامب ولمخططاته العدوانية الرامية الى تهجير ابناء شعبنا في قطاع غزة وتدمير المخيمات ووكالة غوث اللاجئيين كعنوان اممي وحقوقي لحق العودة: انت لا تعرف الشعب الفلسطيني ، هذا الشعب الذي يبني كيانه ودولته حجرا حجرا، ينتشل الشهداء من تحت الانقاض، الشهداء يعودون ويشاركون في البناء، المأساة الفلسطينية في ثقافتنا لها معنى، فنحن عشاق حرية، عشاق المكان الى درجة الموت، الى درجة الانعتاق والتحرر ، لا نملك سوى دمنا وقيدنا ، ومن حقنا ان نعلن دولتنا المستقلة فوق اجساد شهدائنا ، على صخرنا وفي سماءنا وفي بحرنا، فدمنا هو لغتنا ، نحن شعب يتصبب شمساً وحرية.
ان مشهد عودة النازحين في قطاع غزة يقول: لا تخف، اننا امة لو جهنم صبت فوق راسها واقفة ، هذه كلمات الشاعر العربي مظفر النواب يتردد صداها في غزة ، والتي لا تنطبق الا على الشعب الفلسطيني ، هذا الشعب الذي تركته الامة العربية وحيداً يذبح في ابشع ابادة دموية في العصر الحديث، هذا الشعب اعلن النفير، حمل جروحه وآلامه وبؤسه ومتاعه وهدم الخيمة، عاد مشيا على الاقدام الى مكان سكنه في شمال غزة ، وابعد من كل ذلك ، الى البيوت والمنازل المهجرة التي هجر منها عام النكبة، البيت والارض والذكريات، هدم السياج والخوف وعاد، نحن هنا باقون على صدوركم كالجدار، وفي حلقوكم كقطعة الزجاج كالصبار، لن نرحل، سنقيم فوق الركام ونبدأ من جديد، لن يقتلعنا احد، لا قسرا ولا طوعا، نعود الى منازلنا لان البيوت تموت اذا غاب سكانها ، انها العودة العنيدة والاصرار على البقاء.
الشعب الفلسطيني خرج من المجزرة، اغتسل الشهداء ونهضوا ليشاركوا في بناء الحياة مرة اخرى، وبعد مسافات طويلة وشاقة، وباقدام حافية ومتعبة، وصلوا الى منازلهم التي دمرتها الصواريخ والمتفجرات، وكان هناك يافطة كتب عليها : غزة ترحب بكم من جديد، تلاشت الاوجاع ، انه وعد العودة، الامل الذي اذاب المسافات وحطم الياس، الامل الذي صنع من جزمة الفدائي افقاً ، النازحون وصلوا الى شمال غزة، انفجر الحنين مرة واحدة ، الحنين في ارض الولادة معركة، اختلط الفرح بالوجع والمشاعر الجارفة، دمنا دلنا على الطريق، البيوت رحبت بسكانها والقت عليهم السلام، وها نحن نستند الى حائط مهدم، نجلس على التراب ، وهنا بدأت الشوارع والحارات تتكلم، صوت الشهداء يمتزج بصوت الاذان، الاحياء يصافحون الشهداء، تجتمع العائلة بعد غياب.
هل شاهد الرئيس ترامب مشهد العودة الاسطوري؟ شعب لن يموت، شعب مولود تحت ضربات القنابل والانفجارات، شعب يقوم من تحت الخراب، شعب يبني بيته فوق جسده، شعب ينظف بقايا الموت عن عتبة الدار، اطفال يلعبون بما عثروا عليه من أشيائهم الصغيرة تحت الاسمنت والحديد، نسمع من يدق المسامير في الخشب، ونرى من يجمع الحجارة ويوقد النار ويعلن ان غزة تنتقل الى ورشتها، ذهب الموت وجاءت الحياة.
كيف عادوا وقد اصبحت غزة مكانا لا يصلح للعيش والسكن كما ظنوا؟ غزة عادت الى العصور الحجرية كما قال جنرالات الحرب في تل ابيب، لكنهم لا يعرفون ان الشعب الفلسطيني ليس بوسع أي حرب ان تطرده من ارضه، هذه الارض خصيبة رغم الحريق والجحيم ، هذه الارض قادرة على التجدد والنماء، فيها الماء والدم والتراب والهواء، فيها البحر والمد والجزر والطوفان والرمل والتاريخ والبذور، الاجساد المعجونة بالطين ما زالت طازجة، كيف عادوا؟ انها معجزة، وعلى العالم ان ينحني الان للشعب الفلسطيني الذي كلما انهار المكان اعاد تركيب المكان، يبني حياته الف مرة ومرة ، وهنا باقون للمرة التي لا تحصى، نرمم ما بداخلنا من فقدان واحزان ونمسك فاساً وحجراً ، نزرع شجرة، نكتب نشيدنا الوطني، انها هوية الروح منذ الازل والى الابد ، لا مكان اخر لنا، فمن المقبرة الى الارض ومن الارض الى المقبرة.
احمل نعشي على كتفي وامشي وامشي، نستقبل الاسرى المحررين كل يوم سبت، شارة نصر وفرح ودهشة، حررنا يوم السبت من طقوسهم الخرافية، آلامنا حولناها الى زفاف ، تحرر الاسرى من احكام المؤبدات، خرجوا من المقابر العميقة، وقد رايت الاسير زكريا الزبيدي حرا مرتين: مرة عندما حفر نفقا تحت سجن جلبوع ووصل مدينة الناصرة، ومرة عندما حفر نقفا في الوعي الصهيوني الذي اصيب بالصدمة عندما شاهد الشهداء يحملون الاحياء على اكتافهم في شوارع رام الله، يرفعونهم اعلى واعلى من جدران سجونهم ومن جرائمهم المتوحشة.
المفارقة أن الوعي اليهودي احتاج الى كل هذا الزمن الطويل من القتل والهدم والاعتقالات حتى يستيقظ وينشئ هيئة شؤون اسرى، ويطالب بحرية المحتلين من الشعب الواقع تحت الاحتلال، وكانه لم يكن يرانا نرزح سنين طويلة بين القضبان، الصورة المتعاكسة ليست متشابهة، لكن مفتاح السجن لم يعد في يد السجان .
احمل نعشي على كتفي وامشي وامشي، واسمع الاعداء يصرخون: لقد فشلنا ، لقد هزمنا، ونحن من دمر غزة بالاف من اطنان القنابل والصواريخ ، غزة تعود الى حياتها اليومية ، لم يهاجر سكانها ، لم يستسلموا، لم تعلمنا هذه الحرب الاوسع والاكثر طغيانا في التاريخ المعاصر ان الماساة الفلسطينية تقرأ بطريقة جدلية ، لم نتعلم انه كلما اوغلنا في القتل والمذابح تخنقنا دماء الفلسطينيين، وتنفجر من تحتنا الاف القنابل، لم يهاجروا، بل فر الالاف من الاسرائيليين الى الخارج حسب تقارير الصحف العبرية، واسمع الاعداء يصرخون: هذه الارض لا تعرفنا ، تلفظنا، القوة العسكرية والجدران الحديدية لا تصنع حقا ولا تاريخا في هذه المنطقة.
عودة النازحين الى بيوتهم في غزة عبر عن عجز الاحتلال عن الحياة مع قوة الحياة التي يعبر عنها الفلسطينيون ، لهذا لا يعرفون العيش الا داخل ملجأ او دبابة ، ان العائد اذا عاد لا يعود الا الى وطنه، ونراهم الان يهاجمون المخيمات بشراسة وسادية وهمجية، لان صفيح المخيم تحول الى سماء، المخيم وعاء الجسد المؤقت، المخيم فاتحة الطريق، الفلسطيني اللاجئ يعيد بناء الفكرة كما يعيد بناء جسده ويعيد بناء بيته ، ويعيد بناء مخيمه ويقاتل،.
احمل نعشي على كتفي وامشي وامشي، وما زال الشاعر سميح القاسم في شمال غزة ، طعام الشهيدة يكفي شهيدين، وطعام الاسيرة يكفي اسيرين، نجلس هنا فوق ارضنا ، نعمرها بايدينا وبجوعنا وبدموعنا، يجمعنا الخبز والملح واشلاؤنا بلقمة العودة ومائدة المصطبة ، نصوم شهر رمضان ونصلي صلاة الفجر العظيم في المسجد الاقصى، نحن شعب يستعصي على الابادة.
وها نحن ابناء احياءنا عائدون
على عربات المنافي
ومن دمدمات المجازر
ومن همهمات المحاور
ومن تمتمات المقابر
ومن صرخات السجون
اجل عائدون