الأربعاء: 12/02/2025 بتوقيت القدس الشريف

هل نحن امام " بريسترويكا" أمريكية بذات الأثار الداخلية والخارجية الكبيرة التي صنعها غورباتشوف؟

نشر بتاريخ: 12/02/2025 ( آخر تحديث: 12/02/2025 الساعة: 16:58 )

الكاتب: الدكتور سنان شقديح





لا يمتلك اي متابع أو باحث إمكانية إطلاق احكام عما ستؤول اليه الامور داخل الولايات المتحدة وعالميا بعد أيام قليلة من بداية رئاسة ترمب، ولا يمكن في هذه الفترة القليلة القفز لأستنتاجات تقول إن السياسات التي أطلقها ترمب منذ استلامه ستقود لنتائج مثل تلك التي أحدثتها سياسات "البيروسترويكا" وما تركته من آثار خارجية وداخلية كبرى في دولة الأتحاد السوفيتي لكن هناك إجماع الآن بين الباحثين والمتابعين أن
ترامب يقود ثورة تاريخية ضد الدولة الأميركية ومؤسساتها ستقود لتغييرات عميقة داخليا وخارجيا وقد تكون أو لا تكون لصالح ما يأمل بأن يحققه ترمب.
ليس الهدف من هذا التقرير استقراء نتائج ما يحدث لكنه يهدف للإجابة على سؤال هل ما يحدث هو ثورة؟ وهل ممكن أن تقود هذه الثورة لاثار توازي النتائج والتغيرات العالمية بعد " البروسترويكا".
لنتفق بداية على فرضية تاريخية واحدة يمكن الإجماع عليها: "البيروسترويكا" و"الغلاسنوستا" كانتا سياسات للإصلاح الداخلي فقط وهكذا بدأتا وهذا هو هدفهما المعلن لكن نتائجها صنعت تغييرات كبرى ليس فقط على مستوى الاتحاد السوفيتي ولكن على مستوى موازين القوى العالمية وهو ما قاد لاحقا لتغييرات كبرى.
عمليا يمكن القول هنا ان ما أعلنه ترمب من سياسات خارجية مثل ضم كندا وقناة بنما وغرينلاند وغزة لا تشكل عمليا بأهميتها للراي العام أكثر من نسبة مئوية لا تتجاوز الاثنين بالمائة مقارنة بحجم الاهتمام بالثورة الداخلية التي بدأ فعلا طاقمه ينفذها.
أن ما يحدث داخل الولايات المتحدة ببساطة هو أن ترمب ينفذ مخططاً لتفكيك ما يسميه "الدولة العميقة" لكن الدولة العميقة هي ذاتها مؤسسات الحكومة الاميركية الامنية والداخلية والخارجية. ان اغلاق إدارة ترمب للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ليس هو البداية فهناك اجراءات مشابهة متزامنة وموازية اخرى اكثر اهمية لا يقوم بها إيلون ماسك وحده بل حكومة ترامب ومستشاروه جميعا ولا يبدو انها عمليات إصلاح ضرورية او حتى عمليات تطهير للمؤسسة الحكومية من أعداء ترمب بل هي عملية تفكيك ضمن نظرية "الفك وإعادة التركيب". والملفت هو ان تكتيكات هذه العملية التي تغذيها رغبة ترمب في الانتقام تحت ذريعة خفض التكاليف ومحاربة الفساد كانت سريعة ومفاجئة وعلى جميع المستويات الحكومية وتركت معارضي ترمب وسياساته في صدمة لجهة فعاليتها وكفاءتها خاصة ان بعضها يحظى بقبول كبير لدى قاعدة ترمب وخارجها، فمعظم الاميركيين مثلا ضد المساعدات الخارجية الممولة من أموال الضرائب التي يدفعونها لتلقي خدمات.
ولعل أبرز عملية معلنة للتفكيك ستطال تاج ودرة ومركز صناعة السياسات الخارجية الاميركية وهي وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية "CIA" حيث كانت يوم الثلاثاء الماضي أول وكالة أمنية تطلب من جميع موظفيها - لاحظ جميع- تقديم استقالاتهم مقابل الحصول على راتب ثمانية أشهر. وحتى مع حقيقة ان الرسالة لم تنص على مستقبل رافضي الاستقالة فأن بين ثنايا وسطور التعميم تهديد مبطن بأن من لم يستقل سيطرد بدون راتب الثمانية اشهر ضمن الصفقة المعروضة الان. وتسوق قصة مطالبة موظفي الوكالة بالاستقالة بأنها ضمن مساعي المدير الجديد جون راتكليف الساعي نحو قوة عاملة أصغر سنًا وأقل علاقة أو محسوبية بالمؤسسات الاخرى ضمن ما يسمى ب " الدولة العميقة".
وايضا هناك إعلان قريب عن إجراءات مشابهة في وزارة العدل المشرفة على النظام العدلي والمحاكم في البلاد فقبل ان ينتهي مجلس الشيوخ من تثبيت المدعية العامة بام بوندي قامت الأسبوع الماضي بانشاء "مجموعة عمل" خارجية لتحليل تصرفات المدعين العامين الفيدراليين وعملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي في القضايا الجنائية التي رفعتها وزارة العدل ضد ترامب وقضايا اخرى.
وعلى الجانب الاخر تم تكليف تولسي غابارد المسؤولة فعليا عن جميع وكالات الأمن الاميركية بموجب أمر تنفيذي لترامب بفحص الوكالات الخاضعة لاختصاصها لتطهيرها بطريقة ستكون مشابهة لما يحدث في السي أي ايه.
وقد أطلقت حملة مشابهة داخل وزارة الخارجية الاميركية وعلى خلاف تقليد معتمد وعادة الرؤوساء الجدد بتغيير بعض السفراء في الدول المؤثرة والأمم المتحدة عند استلام الحكم فترمب اعلن نيته تغيير ما لا يقل عن 120 سفيرا وجزء من هؤلاء هم من اعمدة وخبراء العمل الدبلوماسي الاميركي الذي بات له تقاليد راسخة.
اما وزير الخارجية الجديد فأعلن ان وزارته ستشهد نفس العملية التي نفذت في وكالة المساعدات وقال انها بدأت. وذات الاجراءات ستطال كبار موظفي مجلس الأمن القومي.
وبات مؤكدا أن حكومة ترمب ستعلن قريبا انها تسعى إلى استقالات جماعية من وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي.
ويضاف إلى ذلك نية ترمب المعلنة حل وزارة التربية والتعليم الفدرالية واحالة صلاحياتها لوزارات التربية في الولايات اضافة لنوايا حل وتقليص عشرات المؤسسات والوكالات ووقف تمويل عشرات الآلاف المشاريع التي يضيق المجال عن ذكرها.
أن ما يجري داخل الولايات المتحدة الآن هو عملية تفكيك ستترك اثارا كبيرة ليس فقط داخلية على مستوى الغاء كل البرامج التي توفر دعما للاقليات والطبقة المتوسطة ولكن حتما على المستوى الخارجي. وهنا من الضرورة الإشارة إلى حقيقة ان حجر الزاوية في "القوة الناعمة" الأمريكية في تعزيز العلاقات في الدول النامية هي ال USAID وان الكثير من السياسات والمخططات الاميركية ما كان يمكن ان تمر في دول العالم دون التوطئات أو المقدمات التي توفرها وكالة المساعدات الاميركية عبر تمويل برامج تؤدي إلى نتائج محددة ومن هنا تأتي أهمية اللقاء الدوري الشهري المتواصل منذ عقود بين USAID و CIA ووزارة الخارجية.
وحتما فأن إغلاق أو إلحاق أو تصغير مؤسسة المساعدات سيؤثر على السياسات الخارجية الاميركية ليضاف ذلك الى ما سيؤثره ما يجري من عملية إزاحة وطرد لاعمدة وصناع السياسات الخارجية والامنية الاميركية في وزارة الخارجية ووكالة الاستخبارات ووكالة الأمن القومي.
ما سبق يؤكد ان ما يحدث في واشنطن هو ثورة حقيقية توازي وقد تفوق بحجمها التغييرات التي بدأها غورباتشوف في الاتحاد السوفياتي.
وما يحدث الان هو ان ترامب لم يفز فقط في الانتخابات، بل إنه عن علم أو عن جهل يقوم بعملية تفكيك للحكومة الفيدرالية.
لا يوجد هنا مجال للمقارنة بين مفهوم الإصلاح والتفكيك. فالاصلاح يعني محاولة الحفاظ على ما هو قائم أو اكبر قدر ممكن منه عبر إصلاح وتطوير الاداء لكن مطالبة جميع الموظفين بالاستقالة كما جرى في السي اي ايه واغلاق وكالة المساعدات وما سيجري من إغلاق لوزارة التعليم ومطالبة موظفي الخارجية والاجهزة الامنية بالاستقالة هو عملية تفكيك واضحة وليس اصلاح.
وربما هنا يطرح سؤال كبير لا مجال للإجابة عنه الأن وهو: هل شخصية ترمب ومرض النرجسية الذي يعاني منه هما حافز هذه العملية ام ان هناك فكرا كاملا مثل تنفيذ أجندة "مشروع 2025" هما المحرك وراء ذلك؟
وهنا تظهر حقيقة أن طاقم ترمب لم يأخذ أول 100 يوم -وهي فرصة تعطى عالميا لأي حكومة جديدة قبل إطلاق الاحكام ضدها- بل كان لدى فريق ترامب خطة معركة لأول 100 ساعة، وقد نفذوها بسرعة مذهلة. من وابل الأوامر التنفيذية إلى الحرب الشاملة على الحكومة الى وزارة الكفاءة الحكومية.
كل ذلك أكبر بكثير مما توقعه أي متابع او باحث وهو ما يطرح احتمالين الاول ان ذلك اندفاع غير مدروس والثاني عبر العودة لنظرية المؤامرة بأن كل ذلك خطط مسبقا.
كمتابع، انا اميل للاحتمال الاول ويمكن الاستناد بذلك لشخصية ترمب وحادثة تصريحاته الاخيرة عن السيطرة الاميركية على غزة والتي حضرت له في اليلة السابقة للقاءه مع نتنياهو ولم يعلم بها حتى وزير الخارجية او وزير الدفاع.
وكما يبدو للان، فأن ترمب قادر على المضي بتنفيذ جزء هام من السياسات المتعلقة بتفكيك أجهزة الدولة كونها سياسات تحظى بقبول شعبي، فتاريخيا ليس من السهل الدفاع عن البيروقراطيين، فكيف ان أضيف لها المساعدات الخارجية الضخمة التي تجبى من أموال دافعي الضرائب.
كأجابة على فرضية المقدمة فان ما هو ظاهر للان، ان ما يجري هو عملية تفكيك وستمضي في طريقها وتنفذ، اما ما ستقود له فغالبا سيكون تغييرات استراتيجية داخلية وخارجية ليس مستبعدا ان تكون بحجم التغييرات التي احدثتها البيروستوريكا. وهنا يمكن بسهولة ان نستنتج ان ثورة ترمب بتغييراتها الداخلية أكثر جذرية من تغييرات غورباتشوف.
اما فلسطينيا وعلى مدى عقود منذ انطلاق عملية اوسلو يأتي الرؤساء الاميركيون ويذهبون، والسياسات تجاه القضية الفلسطينية تتغير في ظاهرها لكن بنتيجتها كان الوضع الرسمي تحديدا يواصل الاتجاه صعودا على سلم مزيد من الانحياز غير العادل لصالح إسرائيل. ولا استنتج هنا ان هناك دولة عميقة مؤيدة لإسرائيل لكن هناك نخبة حاكمة حقيقية في المؤسسات وفي البيروقراطية الاميركية وكوكبة المنظمات غير الحكومية موالية لإسرائيل ولهذا لم تتغير على الإطلاق الساسات الاميركية تجاه اسرائيل بل صبت لصالحها رغم انفضاح حقيقة انها حكومة ابأدة، ورغم ان هناك تقارير رسمية اميركية اعلن عنها صدرت من دوائر في وزارتي الخارجية والدفاع تحذر من تورط الولايات المتحدة قانونيا في الابادة الجماعية عبر دعمها لإسرائيل، هناك جهاز بيروقراطي يحكم بشكل أساسي في واشنطن بغض النظر عن من هو في البيت الأبيض، وكأن هناك آلة تدير نفسها بنفسها نيابة عن اي حزب حاكم.
كخاتمة: ما يحدث في الولايات المتحدة داخليا هو بحجم ثورة، وحجم التغييرات الداخلية ربما تكون أكثر جذرية من تغييرات غورباتشوف.
أن أول من حصد النتائج السلبية من تغييرات غورباتشوف كان المواطن السوفياتي وحلفاءه مثل دول المنظومة الاشتراكية وبروكسيات المحور الاشتراكي في دول العالم الثالث.
أن سقوط أو انهيار او اضعاف اجهزة الدولة الاميركية او ما يسمى ب "الدولة العميقة" لا يفترض أن يكون أمرا مأسوفا عليه فلسطينيا فهي مؤسسة ثبت تاريخيا إنحيازها الأعمى لإسرائيل لكن يجب منذ الآن المتابعة الحثيثة لما هو قادم.