الخميس: 13/02/2025 بتوقيت القدس الشريف

نتنياهو يسعى إلى تقويض الصفقة

نشر بتاريخ: 13/02/2025 ( آخر تحديث: 13/02/2025 الساعة: 10:18 )

الكاتب: د. جمال زحالقة

تدل القرارات والمواقف التي خرج بها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في الأيام الأخيرة، على أنه شرع في تطبيق نواياه المبيّتة في تقويض صفقة التبادل ووقف إطلاق النار، التي فرضت عليه، وفي العودة إلى الأعمال الحربية. وسيرا في هذا الاتجاه، أصدر تهديدا مباشرا بأنه إذا لم يطلق سراح «مخطوفينا» حتى ظهر السبت المقبل، فإن ذلك يعني بالنسبة له انتهاء وقف إطلاق النار والعودة للقتال حتى «القضاء الكامل على حماس». وفي محاولة لإظهار الجدّية أصدر أوامره بفرض حالة التأهب القصوى في منطقة غلاف غزة، وفي صفوف قوات القيادة الجنوبية للجيش الإسرائيلي، الذي استدعى قوات احتياط ودفع بوحدات عسكرية نحو غزة، لتنتشر – كما قال نتنياهو في كلمته المسجّلة – «في داخل وحول قطاع غزة».
جاءت تهديدات نتنياهو بعد تصريحات ترامب النارية، التي توعّد فيها بالجحيم إذا لم يتم إطلاق سراح جميع المحتجزين حتى ظهر السبت. ونشرت وسائل إعلام إسرائيلية أن رئيس الوزراء الإسرائيلي «لم يتفاجأ» بتصريحات الرئيس الأمريكي، وكان على علم مسبق بها. يبدو أنّه طالبه بها، وقد يكون ترامب قد تجاوز «المطلوب منه»، والتف على نتنياهو من اليمين بإصراره على إطلاق سراح «جميع المحتجزين» دفعة واحدة. وقد تبنّى الكابينيت الإسرائيلي موقف ترامب بشأن المحتجزين، وما سمي «رؤيته الثورية لمستقبل غزّة»، وهذا يعني أن الترانسفير أصبح سياسة إسرائيلية رسمية، معلنة ومشتركة بين الدولة الصهيونية والإمبراطورية الأمريكية. وبعد ان تبنّي موقفه وتوجهه، صرّح إيتمار بن غفير رئيس حزب «القوّة اليهودية» الفاشي، أنه سيعود إلى الحكومة إن هي التزمت بما يقوله ترامب.
كل هذا لا يعني أن وقف إطلاق النار سينتهي، ولا أن الصفقة ستنهار ظهر السبت، إذ ما زالت هناك فرصة للتوصّل إلى تفاهمات جديدة بشأن تنفيذ المرحلة الأولى منها. وتقوم قطر ومصر بمحاولات حثيثة لإنقاذ الموقف، وأبدت حركة حماس استعدادا للإيفاء بتعهداتها، وأوضحت في بيان لها أنّها «ملتزمة باتفاق وقف إطلاق النار، الذي تم برعاية الوسطاء، وشهد عليه المجتمع الدولي.. الاحتلال هو الذي لم يلتزم بتعهداته وعليه تقع مسؤولية أي تعقيدات أو تأخير». من المؤكّد أن حماس غير معنية بتقويض الصفقة، بل تسعى إلى تنفيذها كاملة بلا نقصان، وهذا ما لا تريده إسرائيل – نتنياهو، التي تصدر كل يوم بيانات معناها الفعلي هو عدم الالتزام بالمراحل التالية وبما تشمله من هدنة دائمة وإعمار لغزّة المهدّمة، وهي تمسك بتلابيب ترامب، الذي تعني له الهدنة مع غزة، ترحيل أهلها والتعمير يكون بإدارة أمريكية، لإنشاء مناطق سياحية وترفيهية على شاطئ غزة «الجميل».

ترامب – نتنياهو

يبدو أن التنسيق بين نتنياهو وترامب يتصّف بالحميمية ويصل إلى أدق التفاصيل، وهناك مؤشّرات قوية إلى أن تصريحات ترامب ليست من بنات أفكاره، بل هي صدى لمواقف نتنياهو. وما دار بشأن مشروع الترانسفير، وبشأن الصفقة هو حركة دائرية، تبدأ بموقف إسرائيلي يجري إعداده في تل أبيب، ثم يُنقل إلى واشنطن ليتبنّاه الرئيس الأمريكي ويعلنه على الملأ، وبعدها تُعلن إسرائيل أنّها تعتمده. هذه مرحلة جديدة من أسرلة الموقف الأمريكي، وليس أي أسرلة، بل هي الأكثر تطرّفا حتى بمفاهيم اليمين الإسرائيلي التقليدي. وقد جاءت تصريحات ترامب، على نسق مواقف بن غفير وسموتريتش، حيث دعا إلى إطلاق سراح «جميع المحتجزين» حتى ظهر السبت، وإلّا فالحرب والجحيم. وأحدثت حدّة ترامب ارتباكا إسرائيليا فصدرت، بعد اجتماع الكابينيت الإسرائيلي يوم الثلاثاء الماضي، أربعة بيانات متتالية ومتناقضة في تحديد عدد المحتجزين، الذين تطالب إسرائيل بإطلاق سراحهم «خلال أيام».
وتبين مما نشر عن اجتماع الكابينيت الإسرائيلي، أن الأجهزة الأمنية لا تخشى فقط فشل المرحلة الثانية من الصفقة، بل من انهيار المرحلة الأولى قبلها. وقال ممثلوها في الاجتماع، إن حماس لم تتراجع عن الصفقة، ولم تخرقها، بل كانت لها مطالب وشكاوى محددة، ودعوا إلى منح الوسطاء فرصة لحل الخلاف وانتظار يوم السبت، قبل اتخاذ أي قرار متسرع. ودعت القيادة العسكرية الإسرائيلية إلى مواصلة العمل لإتمام ما جرى الاتفاق عليه، وعدم وضع شروط جديدة قد تؤدي إلى عدم إطلاق سراح محتجزين إسرائيليين وإلى «تعريض حياتهم للخطر». وتعكس مواقف الجيش والمخابرات الإسرائيلية، تخوفا من نوايا نتنياهو ورغبته في إفشال الصفقة والعودة للحرب. هذه النوايا ليست خفية، ففي خطابه على منصة الكنيست، الإثنين الماضي، عاد نتنياهو وأكّد أنه ملتزم بحسم المعركة والقضاء على حركة حماس، وهذا تعهّد واضح بمواصلة الحرب لمدة طويلة، وهو يسعى لإنقاذ كرسيّه وسمعته وتحالفاته وسجلّه التاريخي. لقد طوّر نتنياهو «تخصصا وبراعة» في إطلاق تصريحات، وتنفيذ سياسات لتعطيل إمكانية وقف إطلاق النار، وهو يعود إلى ذلك مستعينا بصديقه القديم دونالد ترامب، الذي منحه في الماضي رزمة «ثمينة» من الهدايا السياسية منها، الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة إليها والاعتراف بضم الجولان وغيرها. وها هو يعود بهدايا أثقل وأثمن عن تلك التي وهبها له في ولايته السابقة، لعل أهمها صفقات أسلحة ضخمة ومشروع التطهير العرقي في غزة، وأخيرا التهديد بالجحيم إن لم يطلق سراح المحتجزين الإسرائيليين كافة خلال أيام معدودة. ترامب الذي أجبر نتنياهو على القبول بالصفقة بمراحلها الثلاث، عاد ليعينه في التملّص منها وتقويضها.
ما قاله ترامب عمليا ـ بالاتفاق المسبق مع نتنياهو – هو إن الولايات المتحدة لم تعد ملتزمة بالصفقة، ما فتح الباب على مصراعيه أمام الحكومة الإسرائيلية للتنصّل من التزاماتها، وبالأخص «الهدنة المستدامة» في نهاية المرحلة الثانية للصفقة. وتدل تصريحات الثنائي نتنياهو- ترامب بوضوح وبشكل رسمي على أن الصفقة، كما جرى الاتفاق عليها رسميا، لم تعد قائمة، وهناك «مقترحات جديدة» تفضي كلها إلى تجديد حرب الإبادة الجماعية والتدمير الشامل في غزة. يرى نتنياهو أن معادلة إنهاء الحرب من دون «تحقيق النصر والقضاء على حماس» هي نهاية حياته السياسية ذليلا خائبا تبعا لفشله في تحقيق أهداف الحرب. وعليه هو لن يقبل المضي في مراحل الصفقة حتى نهايتها المتمثّلة في إتمام تبادل الأسرى والهدنة المستدامة والشروع في إعادة الإعمار، لكنّه سيواجه معارضة شرسة، لأن من سيتبقى في الأسر بعد المرحلة هم من الجنود، الذين يحظون بهالة من القدسية في سبارطة -إسرائيل.

عقدة الجنود

احتمال تنفيذ المرحلة الأولى من الصفقة ما زال قائما، ومعها سيتم الانتهاء من إطلاق سراح المحتجزين المدنيين كافة، ويبقى الأسرى الجنود فقط. عندها سيتعرّض نتنياهو إلى ضغوط شديدة من عائلاتهم، ومن الشارع الإسرائيلي ومن المؤسسة الأمنية، للمضي قدما في المرحلة الثانية لإعادتهم إلى بيوتهم وعائلاتهم. وبقاء جنود في الأسر، خاصة بعد إعادة المدنيين، يُفهم من قبل معظم الإسرائيليين بأنه «انتقائية» وتمييز واستهتار بحياة المجندين العسكريين، ويفتح الباب أمام تطاير التهم بأن حكومة إسرائيل «لا تحمي جنودها». يعمل نتنياهو على إرجاء الحديث عن المرحلة الثانية من الصفقة، وهو يسعى إلى إفشالها. لن يكون ذلك بالأمر الهيّن عليه أخذا بعين الاعتبار المكانة الخاصة للعسكريين في المجتمع الإسرائيلي، والتزام المؤسسة الأمنية بأفرادها من جهة، وضغوط اليمين المتطرّف وخوفه على مصيره السياسي من جهة أخرى. ما يبدو إلى الآن هو أن الميل الطبيعي لنتنياهو هو العودة إلى الحرب، وتجاوز المرحلة الثانية من الصفقة، ولكن هناك احتمال، وإن كان ليس كبيرا، بأن تدفع به مفاعيل الضغوط الداخلية إلى «ميل قسري» لإتمام الصفقة، وهذا ممكن إذا اقتنع بأن بمقدوره العودة إلى الحرب بدعم أمريكي.
الأحداث والتطوّرات الأخيرة تقاس بالأيام وبالساعات، وهي تخلق توتّرا على كل الأصعدة، تتداخل فيه الحالة الفلسطينية بالتجاذبات والتوافقات العربية، والأوضاع الداخلية في إسرائيل وانفلات ترامب، الخارج عن نطاق التوقّعات والأعراف الدولية. هنا تبرز الحاجة إلى حكومة إنقاذ فلسطينية متفق عليها، آن الأوان لطرحها على طاولة القمة العربية المقبلة، حتى تحظى بشرعية عربية تامة، وعندها يمكن إغلاق النوافذ والأبواب في وجه الرياح السامّة، التي تنشب من واشنطن وتل أبيب، وعندها يمكن الشروع في تنفيذ مشروع عربي فلسطيني لإنقاذ شعب فلسطين من المزيد من الكوارث، والنهوض به نحو بناء ما تردّم ومواصلة الكفاح نحو التحرر الوطني الذي يستحق.